يقول هانز جورج غادامر " يتقابل الرمز والأمثولة تقابل الفن واللا فن ، حيث يبدو الأول موحياً بلا انتهاء في لا قطعية معناه في حين تبلغ الثانية غايتها النهائية بمجرد الوصول إلي معناها "
إن ذلك المقتطف المجتزأ من غادامر - وعلى عموميته وعدم تحديده لمصطلح الرمز أو مصطلح الأمثولة بشكل واضح إلا انه - يفتح لنا المجال لاستكشاف عرض " حكمة القرود" للكاتب / عصام أبو سيف والمخرج محمد مرسي الذي قدمته فرقة مسرح الطليعة ضمن أطار موسمها الشتوي لهذا العام .. ولعل ذلك الدور الذي يمكن أن يقدمه لنا المقتطف في كشف عالم العرض وفتح مجال أمام عملية تقيمه وبالتالي يبدأ في التكشف عبر تلك المهمة شديدة الضخامة والتعقيد – التي يحملها العرض على عاتقه – والمتمثلة في تشكيل نموذج يمكن أن يعبر عن تاريخ العلاقة بين السلطة وخطاباتها بالمجتمع المصري وذلك منذ نشوء مفهوم الدولة لدي عصر بناة الأهرام وحتى الآن .. حيث يحاول العرض وانطلاقا من أمثولة تدور حول رغبة قط وقطة في الزواج ورفض القرد الحكيم السماح لهم بالزواج في بداية كل لوحة من لوحات العرض لسبب مختلف.. فمرة يرفض بسبب موت الملك ومرة لحزن الإمبراطور وتارة للقضاء على الأعداء (الهكسوس) وأخري لمواجهة الكفار .. الخ لتصل الأمثولة المسرحية في النهاية لحتمية أن يثور القط ( مصطفي عبد الفتاح) والقطة (إيمان سليم) على عبوديتهم للخطاب الذي يمثله القرد الحكيم (أحمد رجب) بعدما يتبين لهما زيف خطاب القرد أو كون الهرم مقلوب ومشوه.
إن مصطلح الأمثولة - وكما يقدمه غادامر - يبدو في نص العرض شديد الوضوح والتعين حيث يقوم العرض على حكاية تجد بعض من مصادرها في الديانة المصرية القديمة من خلال التلميح غير الصريح للمتفرج بكون شخصية القرد الحكيم تحوير للإله تحوت (اله الحكمة) والذي وكان يصور إما في هيئة الطائر أبو منجل أو قرد البابون وهو ما يتم التأكيد عليه من خلال العديد من العناصر التي تنتمي للعصر الفرعوني كالهرم وتقديم الأعداء على أنهم الهكسوس .. الخ. ومن ثم ينطلق العرض لتطوير تلك الحكاية لتتحول لاستعارة للتاريخ المصري من خلال المقابلة بينها وبين مراحل التاريخ المصري بما يجعل من الحكاية التي سبق أن وصفنا خطوطها العامة أمثولة مسرحية ينتهي دورها بوصول المتفرج إلي الغاية التي تسعي إليها وهي إدراك التاريخ المصري كتاريخ قهر وعبودية لا يمكن مواجهته إلا عبر الثورة عليه بكل ما يحمل من سلطات سياسية ودينية وثقافية .
ولعل ما يؤكد ذلك التوجه العام للعرض نحو تقديم ذاته كأمثولة أو حكاية ذات طابع وعظي تشبه أمثولات السيد المسيح في العهد الجديد أو نموذج الأمثولة في القرآن الكريم هو طبيعة العلامات المسرحية الشديدة البساطة التي تؤكد على طبيعة العلاقة بين الحكاية والتاريخ المصري كعلاقة استعارية تتحول بمقتضاها حكاية محاولة القط والقطة الزواج لأمثولة لتصوير التاريخ المصري .
فكيف حدث ذلك ؟
يمكن بشكل مبدئي أن نجد مبررات أطروحتنا متحققة في النص حيث تمثل شخصية القرد خطابات السلطة وهي في حال تحقق على خشبة المسرح ولكن ونتيجة لعدم اكتراث النص باستكشاف أبعاد تلك الخطابات أو تحليلها فإنها تتحول لعلامات مغلقة (غير قابلة لأن تسمح بتعدد مدلولات للدال) تقدم على خشبة المسرح وهو ما يمكن أن نفسره من خلال المثال التالي والذي يظهر كون خطاب الشخصية هو عبارة عن إعادة صياغة لشذرات منتقاة من خطابات تاريخية :
في المشهد الذي يقدم فيه القرد خطاب الدولة الإسلامية حول الكفار فهو يجرد الخطاب من محتواه الديني والسياسي ويقدمه كتجسيد للخطاب السياسي والديني للدولة الإسلامية (نحن هنا نتحدث عن فترة زمنية شديدة الأتساع تمتد منذ الفتح الإسلامي لمصر وحتى دولة المماليك !) .. وهو ما يكشف عن حالة النفي لذلك الخطاب ككل وتقديمه ضمن حكم نهائي للعرض كخطاب قمعي قائم على نفي الأخر وإخضاع المواطنين.. بما لا يسمح بالضرورة بمساحات تأويلية أو تحليلية حتى لو كانت هامشية .
وإلي جوار ذلك المثال يمكن أن نجد الكثير من الأمثلة التي تؤكد على ميل النص نحو تحجيم العالم الدرامي في حدود الأمثولة بمداها المحدود والمغلق من ناحية إلي جانب طبيعة وعظية تصل لمداها في المشهد الأخير الداعي للثورة كحل نهائي.
ولعل بقية عناصر العرض قد ساهمت في التوجه بداية بالموسيقي (محمد حسني) التي مالت نحو تقديم نفسها كعنصر تفسيري.. فهناك توجه نحو محاكاة الموسيقي الخاصة بكل مرحلة تاريخية ... وهو ما جعل الموسيقي عنصراً مساهماً في غلق عالم العرض وتحديده.. وبالمثل يمكن أن نجد الديكور والإكسسوار (جمعة) فإلي جانب تشكيل الهرم الذي أحتاج للكثير من المجهود لتفكيكه في بداية العرض وعملية تشكيل اللوحات المعبرة عن العصور التاريخية التي كانت حملاً على العرض نتيجة احتياجها لمشارك غير منتمي لعالم العرض يخترق العرض بصرياً وزمنياً ليقوم بعمليه نزع اللوحات ... إلي جانب كل ذلك فإن الإكسسوار والديكور أسهم إلي جانب الموسيقي في القيام بالدور التفسيري المغلق لأي أمكانية تفسيرية مغايرة أو متجاوزة لهدف العرض ووعيه بذاته كأمثولة مسرحية .
وهو ذات ما نحى بالمخرج إلي الدفع بالقط (مصطفي عبد الفتاح ) والقطة (إيمان سليم) إلي مقدمة خشبة المسرح في معظم أجزاء العرض بل ومحاولة التأكيد على ذلك العلاقة بين الشخصيات والمتفرج من خلال توجه (مصطفي عبد الفتاح) بالخطاب مباشرة للمتلقي بما يؤكد على رغبة المخرج في التأكيد على انتماء الشخصيات إلي عالم المتفرج وانتماء المتفرج إلي عالمهم وهو ما يطرح نفس الرغبة التفسيرية ...
ربما صار من الطبيعي والمكرر أن نشير إلي أن الممثلين قد ساروا في ذات الطريق عبر تأكيدهم أدائياً علي ذات الخط التفسيري وأن ظل لهم بعض الحضور الخاص بهم كما نجد عند أحمد رجب الذي يؤدي في العرض مجموعة كبيرة من الأنماط التي يتحرك بينها سواء على مستوي الأداء الجسدي أو الصوتي بقدر من السهولة واليسر التي ساهمت في تحقيق قدر من التواصل بين المتلقي والعرض عبر الأجواء الكوميدية الخفيفة التي كان يعكسها أدائه ... وهو ذاته ما يمكن أن نقوله عن كل من مصطفي عبد الفتاح وإيمان سليم وإن كان أدائهم يعتمد بشكل أساسي على تقديم حالة الإنهاك الجسدي والنفسي المتصاعد الذي تعاني منه الشخصيات والذي يحكم إيقاع العرض بشكل كبير وإن كان ذلك يحتاج لمزيد من العمل عليه .
ربما كان الحكم الذي يمكن أن نستنتجه في النهاية من خلال مقولة غادامر على العرض شديد القسوة والإجحاف .. ذلك أن الحكم بكون العرض (لا فن ) هو أمر يحتوي على كثير من الغلظة في التعامل مع العرض الذي يعكس مجهود الكثير من المبدعين... وهو ما يدفعنا إلي أن نتوقف عند مرحلة التعارض مع خطاب العرض ونعته بأنه خطاب غير فني ينتمي لعالم الأمثولة، صارع المخرج ومجموعة العمل في تحويله لعمل فني نجح في إقامة علاقة مع المتلقين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق