الاثنين، ديسمبر 13، 2010

أخر حكايات الدنيا ... عرض محاصر بتقنياته وطموحه


ظلت فرقة مسرح الطليعة – ولزمن طويل- أحد أكبر الشواهد على حالة الاغتراب التي يحيها الفن المسرحي في مصر ليس على مستوي التناقض بين الواقع وخطاب الفرقة المتجسد في أسمها فحسب.. بل أن ذلك الاغتراب يمكن أن نجده متحققاً على أرض الواقع من خلال موقع الفرقة في قلب المدينة التي تضج بزحامها وثقافتها وأسواقها وفنونها ورؤاها للعالم ، وذلك في مقابل حالة العزلة المتعالية التي تقوقعت فيها الفرقة خلف الأسوار التي تفصلها عن المدينة بعدما تخلت عن الدور الذي كان يفترض بها أن تقوم به كطليعة تقدمية وتجريبية تقود الحراك الاجتماعي على المستوي الفني – على الأقل – وهو ما لم يحدث نتيجة لتسيد سلطات دينية واجتماعية وسياسية معادية وقامعة للأفكار التقدمية والطليعية داخل المجتمع وذلك إلي جانب العديد من السياسات الإدارية والخيارات الفنية التي ساهمت في تحويل مسرح الطليعة لقلعة متداعية ومحاصرة بصخب المدينة وثقافتها وضوضائها.

ولكن وفي ظل عمليات التطوير الأخيرة للمبني ولقاعات العرض ربما كان من الممكن لنا أن نحاول استدعاء ذلك الطموح القديم الذي قامت عليه الفرقة والمرتبط بدور فرقة مسرح الطليعة في قيادة الحركة التجريبية في المسرح المصري.. خصوصاً أن مخرج ومؤلف العرض (محمد الدرة ) واحد من أبناء أحد أكثر بؤر المسرح المصري قوة وحيوية ونشاطاً (نوادي المسرح) وهو ما يمكن أن يقودنا نحو تفاؤل مبدئي حتى قبل مشاهدة العرض المسرحي..

ولكن ذلك اللقاء وبرغم ما يملك من مقومات تدفع للتفاؤل لم يكن كافي لتوفير الأجواء الملائمة لظهور عرض مسرحي يحقق قدر الطموحات المعقودة عليه  وهو ما يعود – بشكل أساسي- إلي مجموعة من المعوقات التي يمكن أن نلحظها في العرض والتي أثقلته وقضت على ذلك التفاؤل..

ولعل أهم تلك المعوقات هي النص المسرحي الذي يبدو - في العرض - أقرب للمخطط التوضيحي للأفكار التي يريد المؤلف طرحها وليس كنص عرض مكتمل وجاهز لكي يقدم للجمهور.. ولعل ذلك ما يمكن أن يتأكد مجموعة من التناقضات البنائية ففي حين نجد أن العرض يميل في نصفه الأول ومن خلال النص بشكل أساسي نحو استخدام  المحاكاة الساخرة (البارودي) بداية من الحكاية الإطارية (الجد والحفيد) والتي تقوم على عملية قلب ومعارضة للصورة التقليدية الراسخة في ذهن المتلقي عن الجد الحكاء والحفيد المستمع .. مروراً بالمعارضة الساخرة لحكاية قيس وليلي التراثية ونفي الجانب العذري عنها وتقديمها في إطار جنسي .. وهو ما يمكن أن نجده في حكاية دفن الحمار والتي تدخل في إطار المحاكاة الساخرة لتقديس للأولياء والإيمان بقدراتهم وكرماتهم.. الخ.

ولكن ومنذ العودة إلي الحكاية الإطارية بعد حكاية الولي المزيف ومروراً بالمشهد الراقص المصور للتاريخ المصري وفقاً لرؤية العرض ثم حكاية الغد (أو الحكاية التي يشترك كل من الجد والحفيد في حكايتها) ونهاية بموت الجد وحالة الضياع والفقد التي يعاني منها الحفيد غير القادر على شغل الفراغ الذي يخلفه موت الجد ... أن كافة تلك التفاصيل تنحو بالعرض نحو أجواء مناقضة تقريباً لعمليات المحاكاة الساخرة التي تسيطر على الجزء الأول منه وهو ما يكشف عن وجود أزمة حقيقية في عمليات تشكيل النص وذلك على الرغم من محاولة النص إيجاد تبريرات لذلك التحول من خلال تطور الخط الدرامي الخارجي المتمثل في تطور علاقة الجد والحفيد .. حيث أنعكس ذلك التحول الأسلوبي بكل ما يحمل من أفكار ورؤى وعمليات تشكيل للعالم ولمنطق العرض الداخلي من أسلوب المحاكاة الساخرة بالجزء الأول إلي نفي ذلك الأسلوب في الجزء الثاني من النص على كافة عناصر العرض بشكل كشف عن عدم وضوح خطاب العرض وتخلخله..

ربما كان الاستخدام المتنوع للأساليب مقبولاً - في حد ذاته بشكل عام-  وضمن أطار توجه ومنطق العرض – بشكل خاص - لكنه ونتيجة لكونه تحول غير فاعل في العرض ولا يحمل مبررات كافية ( خاصة أن ذلك التحول لم يكن مرتبطاًُ بتحول حقيقي في طبيعة العلاقة بين الجد والحفيد ) فلقد صار قامعاً للخطابات التي كان العرض يحاول طرحها والتي لم تجد لها من منافذ في العرض سوي تلك الجمل الخطابية التي يتم التأكيد عليها من خلال الخطة الإخراجية لحركة الشخصيات وكذلك من خلال الأداء التمثيلي عبر جمل ذات صبغة شاعرية.

ربما كانت تلك المشكلة تبدو متعنتة  بعض الشيء ومن الممكن تجاوزها أو تجاهلها إذ ما كان العرض قادر على تحقيق قدر من التواصل مع المتلقي أو تحقيق قدر من التماسك والوضوح ولكن ما ينفي عنها تعنتها هو عدم قدرة العرض على تحقيق التواصل أو التماسك برغم كافة المحاولات التي بذلها العرض بداية من سينوغرافيا (لعلاء سليم) والتي أصبحت نتيجة لفراغ النص وفقدانه للتماسك تشير لذاتها ولتعينها طيلة الوقت من خلال حضورها الطاغي في مقابل غياب ما يبرر ذلك الحضور بداية من المرايا التي لم يلجأ إليها العرض سوي لمرات قليلة ومن خلال جمل ذات الصبغة الشاعرية مثل (الموتى داخل المرايات) للإشارة للتواجد الدائم والمستمر لانعكاس صور المتلقين على المرايا التي تحتل خلفية المسرح ولكن ذلك التأكيد سرعان ما يذوب ويختفي الأثر المطلوب منها نتيجة عدم تأكيد العرض على حضور المتفرج وتعينه داخل العرض كفاعل أو كمشارك ولو حتى بشكل سلبي وهو ما جعل من السهل على المتفرج تحيدها وتجاهل انعكاس صورته أو صور الممثلين عليها .

وما يمكن أن يقال عن المرايا يمكن أن يقال بالمثل عن العرائس المشنوقة والعارية التي تشغل الفراغ المسرحي والتي يتم إخفائها وإبرازها داخل العرض ولكن ذلك التواجد ونتيجة لعدم وجود ما يدعمه أو يؤكد عليه سريعاً ما يتم تجاهله أو ضمه ضمن مجموعة الألعاب الخاصة بالحفيد (كريم الحسيني) بما يفقدها الأفق الذي كانت تطمح إليه .

وبالمجمل يصير حضور الإطار التشكيلي المحيط بالمؤدين منفصل عنهم وعن العالم الخاص بالعرض بما يبرز المنظر المسرحي ويؤكد على حضوره وجماليته بشكل منفصل عن العرض... وبالتالي يتحول هو الأخر لمعوق ومانع للعرض من التحقق الجمالي والفكري .

وإذ ما كان ذلك هو وضع السينوغرافيا فإن بروز المؤدين يصبح من البديهيات  فنحن نستطيع أن نلمح وبشكل واضح أن المؤدين ورغم تعدد الشخصيات التي يقومون بتأديتها (كريم الحسيني / الحفيد، اللص، أبو ليلي .. الخ - أحمد الحلواني /الجد، قيس، اللص، رجل الأعمال.. - إيمان لطفي/ اللوحة، ليلي، مصر.. الخ).. برغم كل تلك الشخصيات وغيرها إلا أنه من الواضح أنه لم يكن هناك توجه إخراجي واضح نحو أسلوب أدائي محدد نتيجة للتحولات الأسلوبية على مستوي النص وبالتالي فنحن نجد أنفسنا طوال الوقت أمام اجتهادات المؤدين الخاصة لتشكيل الشخصيات وملامحها أو لتخليق الكوميديا التي لا يوفر النص القاعدة الكافية لتفجيرها وهو ما يتأكد عبر الاختلافات بين المؤدين والمشاكل الإيقاعية التي تنتج عن ذلك .

يرغب العرض – في مستوي من مستويات التحليل - في مناقشة أوضاع أجيال افتقدت القدرة على تخليق عالمها أو وعياً خاص بها نتيجة للوصاية المستمرة من السلطات القمعية داخل المجتمع إلي الحد الذي أصبحت فيه غير قادرة إدراك هويتها بمعزل عن تلك السلطات القمعية وفي سبيل ذلك ينطلق العرض نحو التأكيد على أساليب القوي القمعية في تخليق التاريخ وتأويلاته بشكل أصاب العرض بحالة من التشتت نتيجة اللجوء المستمر لتقنيات حداثية وما بعد حداثية لمناقشة قضية خاصة بمجتمع (مجتمع النص) لم يدخل بعد لمرحلة الحداثة .. وبالتالي صار العرض وكما سبق أن أشرنا منفصل عن خطابه ومنعزل في قلعة تشكلها الجمل الخطابية والشاعرية بينما .. قلعة محاصرة ومتداعية أمام التكنيكات والأساليب التي لجاء إليها المخرج في عمليات التشكيل تماماً مثل مسرح الطليعة كما أشرنا في مقدمة تلك المقال...

في النهاية ربما لم يستطع العرض أن يحقق قدر النجاح الذي كان منتظراً منه لكن ذلك لا يعني بالتأكيد أن مسرح الطليعة قد أستنفذ فرصة بعد لتحقيق دوره ولكسر عزلته عن العالم ليعاود احتلال مكانه داخل الحركة المسرحية وداخل المجتمع.

هناك تعليق واحد:

محمــد العجـــمى يقول...
أزال المؤلف هذا التعليق.

في انتظار العائلة ... ثنائية البراءة والذنب

  منذ الوهلة الأولى، يتجلى عرض في انتظار العائلة بوصفه دراما تعبيرية تدور في فلك العالم الداخلي لمحامٍ يسعى للموت في أجواء كابوسية، حيث تطال...