ربما كانت عودة المخرجة (كريمة بدير) لنص الدكتور طه حسين دعاء الكروان من خلال الرؤية الدرامية لرشا عبد المنعم يعيد طرح الكثير من الأسئلة التي تطفو على السطح كلما حاول أحد فناني المسرح اعتماد مادة روائية أو قصصية كعنصر أساسي في عمليات تشكيل عرضه المسرحي . ذلك أن المسرحي يواجه بمجموعة من الصعوبات التي تكتنف عمليات انتقال المتن الحكائي من الكتاب إلي ساحة العرض المسرحي ... صعوبات تصل في أغلب الأحيان بالمبدع المسرحي إلي الاستسلام أمام سطوة الكتاب المطبوع ليتحول إلي مترجم للكلمات المطبوعة للغات العرض المسرحي.
ومن هنا فإن تلك التساؤلات التي تثار حول قدرة الفنون الأدائية على تقديم العمق الفكري أو الإنساني الذي تذخر به الكثير من الروايات تصبح ذات مشروعية ووجاهة خاصة أن ذلك أن الفنان المسرحي (الذي وصفنا علاقته بالرواية بالاستسلام) يضطر لأن يختزل العالم السردي في مجموعة من المشاهد الحوارية التي تنتزع الحكاية من كافة التقنيات السردية والبناء الروائي كي ما يستطيع تحويل الحكاية لمشاهد مسرحية مرتبطة ببقايا الحبكة الروائية التي لم تزل عالقة في الحكاية .. ولكن ذلك لا يقود إلا لتسطيح الحكاية ذاتها نتيجة عدم ملائمة التقنيات المسرحية لنقل العالم السردي كما هو في بهائه وأتساعه أو الاكتفاء بنقل الحكاية... ليصل الأمر في النهاية إلي حد تبدو فيه خشبة المسرح شديدة الضيق أمام ذلك التدفق الذي تمتلكه المادة السردية وذلك بشكل ييدو فيه المسرح شديد البؤس والسطحية والفقر ...
ولكن ذلك الطريق لم يكن الطريق الذي اعتمدته كريمة بدير أو رشا عبد المنعم حيث أنطلق عرض ( دعاء الكروان) من نفي الرواية ذاتها عبر عمليات التفتيت والتفكيك للمتن الحكائي وبالتالي فإن طه حسين لم يكن موجوداً في عرض دعاء الكروان إلا كأحد المصادر التي استحضرتها المخرجة لتشكل عالمها كما هو الحال مع المنشدين الشعبيين والأغاني الشعبية التي كانت حاضرة في العرض .
لقد خرج العرض إذا من ذلك الفخ المبدئي (أو البدائي) ليحاول تصنيع عالم بديل عن عالم (د. طه حسين)...
ومن هنا صار من الطبيعي أن نتعامل مع دعاء الكروان الخاص بكريمة بدير كعمل جديد وغير مرتبط بعمل السردي (دعاء الكروان) سوي في مشابهة أسماء الشخصيات وللخيط الحكائي في صورته الأكثر هشاشة ... وذلك إلي جانب إضافة شخصيات / أو أشباه شخصيات و تفتيت أخري .
وبالتالي فلا داعي لإعادة مناقشة الفروق التي تفصل أو تجمع بين العمل السردي العمل المسرحي.. إلا في حدود شديدة الضيق.
ولكن هل يكفي ذلك الطموح لتصنيع عالم مسرحي بديل ومتماسك ؟
إن أول ما يمكن أن ينفي قدرة العرض على تصنيع عالم بديل - أو التأمل فيه - هو شخصية (الكروان) التي تبدو في العرض كمعلق تحليلي للشخصيات.. ذلك أن تلك الشخصية تكشف (وعبر خطابها) عن عدم قدرة العرض على تحويل تلك التأملات التي تطرحها الشخصية إلي خطاب فني قائم على استخدام إمكانات المسرح كفن ... فظهرت تعليقات الشخصية كتعليقات على عالم الرواية التي تم نفيها في العرض وأصبحت تحاول التماس مع عالم (طه حسين ) الذي لم يعد له من وجود في عالم العرض المسرح سوي بشكل هامشي .
أننا نتحدث هنا عن صوت المؤلف / رشا عبد المنعم وهو يخترق العرض ليلقي بأسئلته وحيرته وأرائه ووجهات نظره في شخصيات الرواية .
وبالتأكيد فإن ذلك لم يتوقف فقط عند ذلك الحد فلقد انتقلت ذلك القلق الذي يصحب محاولة اكتشاف عالم إلي بقية أرجاء العرض بما أضعف من التكنيكات التي أستخدمها العرض حيث بدت الكثير من التكنيكات عالقة في الفراغ وغير قادرة على اجتياز حدودها كتكنيكات فنية عامة صوب أن تتحول إلي جزء من إستراتجية مسرحية واضحة ومحددة كما هو الحال في بؤر الإضاءة الثابتة والمتحركة التي تتابع شخصية الكروان .. كذلك الحال بالنسبة لشخصيات (أمنة/ هنادي) التي تظهر مخترقة بخطابات من عالم المدينة وأزمة الفئات المثقفة في البرجوازية الصغيرة التي تعى بالوضع القلق والهش لعالمها وتشعر بضغط المدينة على وجودها ... كما يمكن أن نكتشف ذلك في حالات التكرار والتشظية التي يحفل بها العرض والتي تجنح صوب التأكيد على حالة القلق التي تسود العرض وعدم قدرته على الإمساك بحدود عالم محدد أو مكتمل .
ربما يمكن أن نقبل بالتجاور بين الغناء الشعبي التقليدي والرقص ما بعد الحداثي ولكن ذلك التجاور هنا لا يكشف عن وعي بالتجاور وبما يمكن أن يكشف عنه من خطابات بقدر ما يكشف عن سيادة حالة القلق البدائي الذي يصحب عملية التشكيل .. وهو ما يبدو وبوضوح في نمط الأداء الذي أعتمده العرض والذي ينطلق من نفي للانفعال وتسيد لحالة أدائية شديدة الحيادية وغير اندماجية وهو ما قد يسهم في تفعيل الأسلوب العام للعرض ... لكنه هنا لم يسهم سوي في كشف حالة القلق التي سادت العرض في التعامل مع تلك الشذرات التي تبقت من الشخصيات والتي لم تعد تملك سوي خطاب تحليلي ونقدي لأصل منفي ولحكاية غير واضحة المعالم .. وهو ما استعاض عنه العرض باستخدام الجسد الراقص كمركز لإنتاج الحكاية في مقابل المادة المنطوقة النقدية الطابع والصورة التجريدية.. وهو ما جعل هذا النمط الأدائي حمل ثقيل على ظهر العرض وغير فاعل .
ربما لم ينج من العرض من عناصر فنية تواصلية أي عنصر قادر على تجاوز فخ التشتت الناتج عن عدم قدرة بناء عالم واضح أو متماسك ( حتى لو بالسلب) ... حتى عمل المهندس محمود حنفي فلقد وضحت حالة القلق تلك في تعامل العرض على مستوي الصورة من خلال علاقة الوحدات التشكيلية مع أجساد الممثلين / أو الشخصيات فكان عمله حمل على العرض نتيجة فشل الممثلين في التعامل معه من داخل منطق العرض .. ولكن تلك المشكلة ربما يمكن إعادتها لكون العرض لم يزل في مرحلة العروض الأولي ولم تعقد صلات حقيقية أو خبرات تواصلية بين الممثلين والديكور بشكل يقضي على حالة التكدس التي تسود خلفية المسرح والتي تتضافر مع عملية تحرك التشكيل من خلال المؤدين ليبدو الأمر شديد الارتباك لدرجة جعلت من عناصر ثابتة وغير فاعلة مسرحياً (أو لم يتم التفكير فيها مسرحياً) مثل الفتاة الجالسة أعلى السلم في الخلفية أكثر عناصر الصورة المسرحية قدرة على ضبط الصورة المسرحية جمالياً .
ربما لم يبق الكثير لعرض دعاء الكروان لفرقة الغد للعروض التراثية سوي ذلك الطموح وتلك الجراءة على الدخول لمساحات في التعامل مع النصوص السردية بإيجابية غير معتادة بالنسبة للكثير من المسرحين... بما يكشف عن رغبة في استكشاف التقنيات المسرحية والتعامل مع الصورة المسرحية كمركز للعرض المسرحي حتى لو لم ينجح في تحويل ذلك إلي عالم مسرحي... فالتجارب القادمة دائماً أكثر قوة وأكثر تماسكاً.
هناك تعليقان (2):
يا محمد ده من أعمق ما كتب عن النص وعن العرض حتى الآن من تحليل لإشكالياته وجمالياته -سواءا فى نقاطى اتفاقى واختلافى معه
شكرا نفتقد هذا الخطاب النقدى الآن
رشا عبد المنعم
شكراً لك يا رشا على الأهتمام وتلك الكلمات المشجعة ...
إرسال تعليق