في العادة ما يدفع النقاد بالمخرجين الذين يعملون في ظل ظروف إنتاجية ضعيفة - أو ما أفضل أن أطلق عليه (مسرح الإمكانات الفقيرة) - نحو تبني النموذج الإنتاجي (الجمالي) للمسرح الفقير الذي يعود للمختبر المسرحي (مسرح 13 صف) والذي أنشاؤه ييجي جروتوفسكي في مطلع الستينات من القرن الماضي ..
وفي العادة أيضا ما يُحمس النقاد والأكاديميين ومديري الفرق المسرحية المسرحيين تجاه الأخذ بأفكار المسرح الفقير لأسباب مختلفة ولكن أهمها هو دعم هذا المستوي الإنتاجي المنخفض التكاليف على المستوي الفني من خلال ما يقدمه (المسرح الفقير) من تنمية للعناصر التمثيلية وفق نمط التدريبات التي قام بتطويرها (جروتوفسكي) و فريقه بمختبرهم .. بحيث تحقق هدف المسرح الفقير في تخليص العلاقة بين المتلقي والممثل من كافة الدعامات المادية المسرحية (الديكور/ الإضاءة/ الموسيقي)..
ولكن ذلك السبب الجمالي ليس السبب الوحيد لذلك الدفع فهناك ما يقدمه (المسرح الفقير) من اختزال وحذف لتلك العناصر المكلفة خاصة في ظل ظروف إنتاجية ضعيفة مرتبطة بالظروف الاقتصادية وبتراجع قيمة الميزانيات نتيجة للتضخم ... الخ وهو ما يتضافر مع تراجع البني الأساسية (من دور عرض وتجهيزات تقنية وخدمات معاونة ) إلي الحد الذي يصعب معه الحديث عن مسرح احترافي قائم على أنتاج ضخم أو حتى متوسط.. وهو ما يعني تراجع قدرة المسرح على تحقيق دوره الترفيهي والتثقيفي داخل المجتمع كما هو حادث الآن... وبالتالي يصبح المسرح الفقير اقرب للحل السحري لتلك المشكلات التي يعاني منها المسرح التقليدي بأشكاله الإنتاجية الضخمة والمتوسطة والصغيرة والمتناهية الصغر.
إن تلك الملاحظة يمكن أن تقودنا نحو إعادة استكشاف (جروتوفسكي) من ناحية ونقاط التلاقي التي يمكن أن يتلامس فيها ذلك المشروع الفني المنتمي للحداثة (كمشروع ثقافي) مع نمط الإنتاج الصغير والمتناهي الصغر والذي ظل ومنذ أقدم العصور شريك أساسي في تطوير فن المسرح على المستوي الجمالي والتقني .
إن مشروع (جروتوفسكي) لا يضع في اعتباره من قريب أو من بعيد حجم الإنتاج كعامل مؤثر في بناء العرض المسرحي .. ذلك أن مشروع (جروتوفسكي) مشروع حدسي في الأساس .. يهدف إلي تنمية وعي مختلف لدي المتلقي من خلال تحويله لمشارك في حالة طقسية من ناحية وتنمية قدرات الممثل ليرتقي من مرحلة تقديم الشخصية إلي المشاركة الفعلية في بناء العرض من خلال اكتشاف ذاته في الأساس
أن ذلك التعريف مختزل بمشروع (جروتوفسكي) يمكن له أن يكشف عن مدي اقتراب مشروع (المسرح الفقير) من المشروع الأصلي الذي كان (أرتو) يحاول تخليقه من خلال حديثه عن أهمية أن يكتسب المسرح قدرة الطاعون وشراسته تجاه النظم الاجتماعية وطبيعة الأدوار التي ترسم للأفراد داخل تلك النظم .. الخ.
وبالتأكيد فإن ذلك المشروع – وكما يري كريستوفر إينز في كتاب المسرح الطليعي - يقترب وإلي حد بعيد من مشروع الفوضوية السياسي والفلسفي ...والذي هو مشروع مناهض للنظام الاجتماعي وللتراتبيات الهرمية التي يفترضها .. ويهدف بشكل أساسي نحو التخلص من مؤسسات الدولة السياسية والاقتصادية كطريق للخلاص وذلك من خلال هدم الدولة البرجوازية عبر أعمال عنيفة وإرهابية تزعزع إيمان المواطن بقدرة الدولة ألا متناهية من جانب وتخلخل النظام الاجتماعي من جانب آخر..
وإذا كان المشروع السياسي (للتحررية الجماعية /الفوضوية) يستخدم أساليب غاية في العنف والدموية في سبيل هدم النظم وذلك لتحقيق مشروع حالم بمجتمع بدون سلطات وبدون نظم اجتماعية جائرة... فإن مشروع (أرتو) من جانب أخر يهدف نحو إعادة اكتشاف المتلقي لذاته من خلال العرض من خلال ما يطلق عليه مسرح القسوة الذي يهدف إلي إكساب العرض المسرحي قدرة الطاعون على الانتشار و تحطيم للنظم الاجتماعية والسياسية .. وذلك من خلال الممثل الممتلك لقدرات أدائية (جسدية/ صوتيه) قادرة على التواصل مع المتلقي من خلال العودة للوعي المبدئي المفترض الذي يكون فيه جسد الممثل متحرر من كافة السلطات الاجتماعية واللغوية والحركية التي تقيده .. وهو ما يؤدي إلي أن يمتلك قدرة على التواصل الحدسي مع المتلقي (ذلك أن ما يرغب في نقله إلي ذلك المتلقي أمور لا تستطيع اللغة أو أنماط التفكير العقلي المقيدة بالخطاب الاجتماعي المعتمدة على وجود السلطة أن تحملها) ...
وبما أن أفكار (أرتو) حول (مسرح القسوة) قد انتقلت إلي كل من (بيتر بروك) و(جروتوفسكي) - كل بتفسيره- فإننا نجد أن الأفكار المشكلة للمسرح الفقير عند جروتوفسكي تقوم على ذات القواعد .. فهو مسرح يحاول التخلص من كافة المؤثرات التي يمكن أن ترد المتلقي إلي خطابات الواقع.. وذلك من خلال طبيعة النصوص التي تنتمي لمرحلة الرومانسية بكل ما تحمله من انفصال عن الواقع ، وكذلك يتم التخلص من تلك المؤثرات من خلال طرق التعامل الإخراجي معها بحيث ينزعها من إطارها ويضفي عليها قدر من الغموض إلي حد يعجز المتلقي عن فك شبكة علاقات تمكنه من استيعاب العرض من خلال دوال واضحة ... أي أن (جروتوفسكي) يفرض قدر من الإبهام على المتلقي بهدف إبعاده عن الواقع وخطاباته المشكلة له في مقابل إتاحة مساحة من المشاركة الحدسية بين (المتلقي / المشارك) و(الممثل / المشارك) .
وما ينطبق على النص يقوم جروتوفسكي بتطبيقه على كافة عناصر العرض من خلال ما يوصفه (أوجست جرودجيتسكي) في كتابه المخرجون البولنديون بتعبير (الحذف الفني) أو حذف كل ما هو ليس ذا أهمية لصالح ما يعتبر جوهر المسرح أو العلاقة بين الممثل والمتلقي .. ولعل ذلك الحذف يتيح التخلص من الخطابات الاجتماعية التي يمكن أن تخترق الديكور والموسيقي والإضاءة .. والتي يمكن أن تُفشل مخطط العرض للتواصل الحدسي بين المتلقي والممثل الذي يرغب في نقل رسالة مناهضة لكافة الخطابات التي ينتجها الواقع والعودة لمرحلة من الوعي سابقة على مرحلة تكون السلطة... ومن أجل القضاء على أخر ما يمكن أن يمثل علاقات السلطة فإن (جروتوفسكي) يدمر العلاقة التقليدية بين مساحات الأداء ومساحات التلقي لتدمير ما يمكن أن يمثله ذلك من سلطة معرفية لمنطقة الأداء أو لمخلفات العلاقة الطبقية القديمة التي تفصل بين الممثل الذي كان ينتمي لسفلة المجتمع والمتلقي البرجوازي أو الأرستقراطي ... وأخيراً فإن تدمير تلك العلاقة التقليدية يسهم في تحويل المتلقي إلي مشارك.
إن ما سبق يمكن أن يبرر لنا ذلك التحول الذي أصاب مشروع (جروتوفسكي) ذاته وجعله يخرج من المسرح (كفن) نحو رحلات ذات مسحة روحانية من خلال هجره لمشروعه المسرحي المعملي لصالح مشاريع تشبه الرحلات الروحانية التي يتخلص فيها الفرد من أدواره الاجتماعية ويعيد اكتشاف ذاته وقد أصبح بعيداً عن المدينة والحضارة الحديثة (التي تمثل النظام الاجتماعي التقليدي والسلطات التي تقمع تحرر ذلك الفرد وتحوله لترس داخل آلة المجتمع ) ذلك إن المسرح ذاته يظل في النهاية جزء من النظام الاجتماعي حتى لو كان مناقضاً له أو متمرداً عليه بحكم كونه محكوم بخطابات اجتماعية وسياسية واقتصادية وفنية وثقافية .. الخ.
كذلك فإن طرحنا يمكن أن يبرر لنا أعجاب (جروتوفسكي) و(أرتو) بمسارح جنوب شرق أسيا ذات التقاليد الأدائية الراسخة والطبيعة الطقسية .. والتي لم تزل محتفظة بقدر عالي من التواصل الحدسي الذي يحول متلقي تلك المسارح إلي مشارك.
بالمجمل أن الاقتراب من المسرح الفقير حسب مفهوم (جروتوفسكي) لا يقدم فحسب مجموعة من الأدوات التقنية البريئة وغير المؤدلجة ( في المرحلة (صفر/البيضاء) حسب تعبير بارت) بل أنه يأتي حاملاً لمجموعة من الأفكار حول المسرح ودوره وعلاقته بالمتلقي .
ومن هنا فإن مسرح الإمكانات الفقيرة يصبح أسير تيار فكري واحد .. هذا لو أن المخرج كان قادراً على استيعاب منهج جروتوفسكي ... كما أن تلك الدعوية التي يقدمها النقاد حول علاقة مسرح الإمكانات الفقيرة بالمسرح الفقير تسهم في سد أفق هذا المسرح الذي يمكن يمتلك العديد من الروافد التي يمكن أن تسهم إلي جانب المسرح الفقير في تنميته على المستوي الجمالي في الأساس (بما أن تلك هي مشكلته الأساسية)..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق