الأربعاء، مايو 12، 2010

حيضان الدم ... عالم يبحث عن المركز ويدينه ..


في العادة ما يمكن للمتابع لحركة الثقافة الجماهيرية أن يرصد مجموعة من الثيمات والأفكار بل والرؤى الجمالية التي تشكل الطبيعة الخاصة بكل إقليم ثقافي .. بل أن من الممكن أن نري سمات عامة للمسرح في بعض الأفرع مثلما هو الحال في الإسكندرية التي يمكن للمتابع لنوعيات العروض التي ينتجها مبدعيها أمن يلمس مجموعة تلك السمات العامة التي تشكل مسرح الإسكندرية ..

وبالتأكيد فإن المسرح في الصعيد المصري قد أنتج مجموعة من السمات البنائية على مستوي النصوص والرؤى البصرية تعبر عن الخصوصية الثقافية التي تميز الصعيد المصري عن كافة أقاليم مصر .. ولعل أول تلك السمات التي يمكن الإشارة إليها هي اعتماد مركز ثابت ومطلق ينطلق منه العالم ويعود إليه بحيث يتحول العالم في أغلب الأحيان إلي ظلال لذلك المركز..

ربما كانت تلك الملاحظة حول المسرح في الصعيد تحتاج للكثير من الدراسة وعمليات المتابعة والرصد حتى يمكن لها أن تتحول من مجرد ملاحظة - تعتمد بزوغ متغير بشكل عشوائي ومتكرر داخل عدد من العروض المتفرقة- إلي عنصر أساسي في دراسة المسرح المصري في الصعيد .

ولكن ولما كان من الصعوبة في ذلك المجال دراسة تلك الظاهرة فإننا سنكتفي لدراستها من خلال عرض (حيضان الدم)  للمخرج أيمن عبد المنعم .. محاولين من خلال ذلك أن نستكشف طبيعة الخطاب الذي يقدمه لنا مجموعة من مبدعي الصعيد من خلال المسرح.. بما يكشف عن رؤيتهم لمجتمعهم من جهة تجلي الثقافة التي خرجوا من عباءتها من جهة أخري من خلال خشبة المسرح.

من مهران وإلي مهران     

لعل أول ما يسهم في كشف العالم المسرحي لعرض ( حيضان الدم) هو احتلال تلك الجلباب والعمامة لمركز خشبة المسرح .. بل أنها تمتد لتحيط بالفراغ المسرحي والدرامي من خلال شال العمامة الذي يمتد ليحيط بعالم العرض ككل.

أن عمل المخرج والسينوغراف ( طه الضوى) يمكن له أن يكشف عن رؤية  بصرية تسهم بشكل مباشر في تشكيل عالم العرض .. خاصة وأن المخرج يعتمد الجلباب كمدخل يخرج من خلاله الشر(ديب / جمال يونس إسماعيل – جابر / حسام الدين عبد السلام  - فوز) .. الخ فالشر يخرج من تلك العباءة التي تسيطر على العالم .. وتقوده نحو قدره المرسوم بدقة .. قدرية الموت واستمرار التقاليد الاجتماعية الرجعية والممتدة لأجيال مضت في التحكم في مصائر العالم قتل أي أمكانية في التغيير...

وبالتأكيد فإن العالم التشكيلي لا يتوقف عند هذا الحد بل أنه يمتد ليؤكد على مركزية الجلباب والتقاليد بداية من تحول العمامة ومن خلال الإضاءة للقمر والدم .. أو من خلال الفرن / الحياة والذي يستخدمه المخرج بشكل واضح للدلالة على الرحم (ميلاد مهران الصغير) وكذلك القبر/صندوق العروس.. أو حتى من خلال الأشجار..

أن كافة قطع الديكور والموتيفات تتراص فوق خشبة المسرح لتؤكد على تلك المركزية التي يحظي بها المركز .. فحتى الموت والحياة يتبعان المركز ويعيشان في ظله .

إن ذلك الحضور البصري الدائم للمركز الذي يتحول دلالياً طيلة الوقت ( الموت/ الجد مهران/ باطن الجبل / مقر الأولياء / المنزل.. الخ ).. ينتج عنه تجسد الجلباب والعباءة كمرادف ( للتقاليد/ الأب/ الشر) وبالتأكيد فإن حكم القيمة علي التقاليد والسلطة الأبوية التي تمتلكها على عالم العرض (كتجلي للشر) يمكن أن يرد إلي رؤية المبدعين لواقعهم بشكل محدد بداية من النص مروراً بالسينوغرافيا وانتهاء بالمخرج .. ولكن ذلك الحضور المركزي يمكن من جانب أخر أن يكشف من جانب أخر عن مركزية ذلك العالم الذي أنتج العرض وعن عدم قدرته على رؤية العالم بدون مركز ثابت وأبدي الطابع.. وبالتأكيد فإن تلك العلاقة بالمركز يمكن رصدها من خلال كافة عناصر العرض بداية من طبيعة تصميم حركة الشخصيات والتي تكشف عن علاقة تلك الشخصيات بالمركز.. فكل خطوط الحركة تتجه صوب المركز الذي يشغل الفضاء حتى في المشاهد التي لا يتم الإشارة إليه فيها من خلال حضوره الدائم فوق خشبة المسرح.

كما يمكن أيضاً أن نلمح عدد من السمات المؤكدة لتلك المركزية من خلال النص الذي أستمد بنيته الأصلية من خلال واحده من أهم الحكايات العربية القديمة (الزباء وعمرو بن عدي) وإن كان النص قد حاول تجاوز تلك الحكاية من خلال إعادة بنائها بحيث تذوب داخل إطار أكثر عمومية يتيح إتاحة مساحة أوسع لشخصيات هامشية لكي يمكن لها أن تسهم في التأكيد على خطاب المؤلف .. ولكن يمكن أن نلمح سيادة الثار وساقية الدم المستمرة بين (الحمدنه والمهرنه ) التي تمتلك سطوتها من خلال التقاليد .. وهو ما يتماس مع النص الحكائي الأصلي ومعالجته الدرامية الأشهر (أرض لا تنبت الزهور) في قدرة التقاليد على تدمير أي أمكانية بعالم بديل .

ومن هنا فإن مهران.. يتحول من شخصية إلي قيمة ومركز لذلك العالم من خلال إعادة إنتاجه من قبل شخصية (جميلة / هيام عبد المنعم).. وذلك بكل ما يحمل من قيم .

التصور السينمائي وأزمة الإضاءة

ربما كان رهان المخرج الأهم في ذلك العرض يتمثل في تقديم صورة مسرحية ذات طبيعة شاعرية تنقل شاعرية النص وبناء لغته الجمالي من خلال الديكور والإضاءة والحركة .. إلي جانب الشريط الصوتي بالطبع .

ولعل أهم محاولاته لتقديم تلك الشاعرية كانت تتمثل في التحرك بين المشاهد المسرحية من خلال الإضاءة بما يخدم تخيل أقرب للتقطيع السينمائي ولكن المشكلة الكبرى التي واجهت العرض والتي قضت على طبيعته الإيقاعية الخاصة من خلال أزمة الإضاءة التي أفسدت الكثير من المشاهد المسرحية وأبرزت المشاكل التي تعتري النص بداية من تمزق الخيوط الدرامية وعدم اكتمال معظمها .. وكذلك أبرزت أزمة التواصل اللغوي بين المتلقي والعرض .

لقد ساهمت الإضاءة بالسلب بشكل واضح وأصيل في تلقي العرض وذلك وهو ما أنعكس بالتأكيد على الأداء التمثيلي بحيث يمكن أن نجد تراجع نسبي في قدرة الممثلين على التواصل مع المتلقي نتيجة غرق الكثير منهم في الظلمة.. وإن كانت تلك الأزمة قد أثرت بشكل كبير على تلقي العرض فإن ذلك لم يمنع من بزوغ الكثير من الطاقات التمثيلية الجيدة.

في النهاية يمكن لنا أن نشير بأن عرض (حيضان الدم ) وبرغم تلك المشكلة الأساسية التي أشرنا إليها وما نتج عنها من كشف لمشكلات أصيله في نص العرض وفشل في الاحتفاظ بإيقاع العرض فإن العرض يكشف عن طاقات إيجابية قادرة على التعبير عن طبيعة الصعيد المصري وخصوصيته الثقافية من خلال المسرح من ناحية .. وضرورة الاهتمام بتلك الطاقات حتى تجد طرقاً أكثر ملائمة وتنوع للتعبير عن ذاتها وعن مجتمعاتها من خلال رؤيتها الخاصة .

ليست هناك تعليقات:

في انتظار العائلة ... ثنائية البراءة والذنب

  منذ الوهلة الأولى، يتجلى عرض في انتظار العائلة بوصفه دراما تعبيرية تدور في فلك العالم الداخلي لمحامٍ يسعى للموت في أجواء كابوسية، حيث تطال...