الجمعة، يناير 08، 2010

عوداً ... أزمة الخطاب الأوحد

في أطار المهرجان الختامي التاسع عشر قدمت المنوفية عرض (عوداً) للمخرج الممثل يوسف النقيب ونص للكاتب والشاعر أحمد الصعيدي وهو عرض يفتح المجال لتحليل الكثير من الظواهر المسرحية التي تظهر وتختفي بين الحين والآخر وتؤشر على نمط مسرحي حاول المسرح المصري تجاوزه منذ أمد بعيد لكنه ظل ورغم كافة المحاولات يمتلك القدرة على الصعود للسطح والتجلي حتى في تجربة مثل نوادي المسرح والتي تتميز بكونها وبحكم تكوينها مناقضة لذلك النمط من المسرح.

 في العادة ما يتعرض ذلك النمط من العروض التي ينتمي إليها عرض (عوداً) ليوسف النقيب لهجمات شرسة تنطلق من حالة التسطيح التي يتعامل بها هذا النمط مع التاريخ .. حيث ينطلق هذا النمط من تعامل سطحي مع الوثائق ويتحول بالتدريج إلي  ترديد لوقائع تاريخية بشكل لا يحاول حتى تحليل تلك الوقائع أو التفكير فيها بشكل نقدي يتجاوز الواقعة صوب استكشاف الإنساني فيها والبحث من خلالها عن ما يكشف آلية حركة التاريخ .

ولكون عرض (عوداً) يقدم نموذجاً مثالياً لذلك النمط – في بعض نواحيه - فأن البحث عن القيم الحاكمة لذلك النمط وكيفية عمله والمشروع الذي تنتمي إليه ربما يكون مطلباً أساسياً لفهم وتشريح تلك القدرة التي تمنح مثل تلك العروض على الظهور بين وقت وأخر برغم أنتهاء قدرتها على تخليق ذات الأثر المرجو منها سواء الجمالي أو الأيديولوجي... وهو ما سوف ينعكس بالتالي على محاولتنا لفهم وتحليل العرض .

ولعل أول السمات التي يمكن اكتشافها لذلك النمط من خلال عرض (عوداً) هو الطابع التوثيقي الملازم له والذي حاول (المخرج/ يوسف النقيب) تجسيده من خلال المواد الوثائقية المسجلة حول وفاة الرئيس جمال عبد الناصر أو من خلال السرد الوثائقي المقدم من خلال نص العرض - الذي كتبه أحمد الصعيدي – للأحداث التاريخية بداية من خطاب التنحي وحتى زيارة الأم لقبر الابن الشهيد ومرورها نقطة التفتيش ومجموعة السائحين اليهود المسموح لهم بزيارة موقع استشهاد الابن ... وهو التوثيق الذي حاول عبره المخرج والمؤلف تحديد وأبراز وجهة نظر في قضية حية – قضية الصراع مع الكيان الأسرائيلي – وإعادة بناء التاريخ بهدف كشف التحولات الأجتماعية والسياسية التي مرت بالوطن خلال ما يقرب من أربعون عاماً .. بما يخلف خطاب أدانة لواقع النظام على كافة المستويات .. أو بشكل أكثر أختزالاً .. فأن خطاب العرض الرافض للواقع برغم الحالة الحماسية التي تتجلي من خلال الأنفجارات العاطفية والخطابية والوثائقية يتحرك بشكل دائم وكعادة تلك العروض الوثائقية صوب أتخاذ موقف سلبي من الحاضر في مقابل التأويل الذي يطرحه للأحداث التاريخية .. كما أنه وبطبيعته يفترض عدم أمكانية تجاوز ذلك الواقع دون عملية أستعادة تامة للحظة تاريخية غير واقعية .. لحظة تشكلها

ومن هنا يظهر تأويل العرض للتاريخ وموقفه منه . وربما كانت فكرة أستعادة الشهيد طيلة الوقت على خشبة المسرح من خلال (النخلة) نموذجاً مثالياً لكيفية تشكيل عمليات الأستعادة تلك .

وبالمقابل فأن العرض كان سيفقد هويته لو أن المخرج قد قرر نفي ذلك الجانب الوثائقي منه فالشخصية الأساسية لا تملك سوي تاريخ يتشابك فيه الشخصي بالعام وتلتقي فيه الهموم الشخصية بالهموم العامة .. ولعل ذلك الرهان حول مزج الشخصي بالعام كان الرهان الفعلي للعرض .. ولكن ذلك الرهان يسقط دائماً في كون خيارات الشخصية المركزية (الأم) للمادة الموثقة وتأويلها له يقود التاريخ المسرود إلي التفتت والتحول لمقاطع مجتزءة يتم صياغتها لتقدم تأويل تاريخي يحتاج بدوره للتفكير فيه بشكل فني .. ففي العادة ما يقوم الفن علي تحليل تأويلات التاريخ والقوي التي قامت بتصنيعها والسلطة التي تمتلك القدرة على تفعيل ذلك التأويل ونفي غيره من التأويلات وذلك عبر وضعها في حالة صدام أو تقابل .. ولكن ما حدث كان تقديم لتأويل تاريخي مفرد .. تأويل يفترض حيازته للحقيقة المطلقة وبالتالي اصبح من الممكن أن تتسرب حالة من التوقع بين المتلقين لطبيعة تطور العرض وعمليات التوثيق التي يقوم بها لخبرتهم الطويلة بحكم محاصرة وسائل الأعلام لهم بصيغ تقدم لذلك الخطاب ولبنيته .

أما ثاني السمات التي يمكن لنا رصدها فهي تلك المتعلقة بطيعة البناء الدرامي لنص العرض .. والتي تم تطويرها عبر عناصر العرض المختلفة .. حيث أنطلقت تلك البنية من تشكيل خط قصصي وحيد وهش يمكن يتكأ عليه التوثيق التاريخي بدون صعوبة .. كما يمكن تميز الطبيعة الأنفعالية العالية والبكائية  لذلك الخط القصصي بحيث يصبح قادر على جذب المتلقي عاطفياً – على الأقل- صوب تبني وجة النظر التي يطرحها التأويل التاريخي للعرض .. وهو ما يمكن أن يكشف عن الأسلوب الذي يعتمده هذا النمط الحماسي على مستوي البناء الدرامي .. حيث تتحول الدراما إلي عنصر جانبي وهش يكتسب أهميته داخل العرض من قدرته على التأثير الأنفعالي على الجمهور وتحفيزه لقبول تأويلاته الموثقة عبر شاشة العرض .. كما يمكن تلمس ملامح ذلك الأسلوب في التفكك الدرامي الواضح الناتج عن تحويل شخصية الأبن الشهيد (سيد زكريا) إلي عارضة يمكن تعليق كافة الأحداث التاريخية عليها دون مشقة فهو المعتقل في مظاهرات المطالبة بتنفيذ وعود تحرير الأرض التي أطلقها الرئيس السادات عام 1972 وهو الشهيد وهو المناضل وهو ضحية السلام .. وهو المثقف المنتمي للحقبة الناصرية .. ألخ... كما يمكن  أن نكتشفه في شخصية الأم كما قدمها يوسف النقيب فإلي جوار تاريخها الشخصي الملازم لكافة مراحل الثورة وتحولات النظام الجمهوري الأيديولوجية تتحول وعبر مونولوجاتها الطويلة إلي بوق دعائي يطرح نمط من التفكير السياسي وهو ما أكده المخرج عبر الحضور شبه الدائم للشخصية على خشبة المسرح .

ويمكن لنا أن نعدد كيفية تحويل النص الشخصيات إلي أبواق يطرح من خلالها رؤية محددة وسابقة التجهيز للعالم كما في شخصية الضابط التي أكد المخرج على تنميطها عبر إسناد كافة الشخصيات المنتمية إلي أجهزة الأمن لممثل واحد ..

أن تلك الملامح المميزة لذلك النمط من العروض لا يمكن أن نتعامل معها هنا وفقاً لطبيعة التعامل النقدي مع النصوص التقليدية .. فذلك النمط من العروض لا يهتم بأن تتحول الشخصيات إلي أبواق لكونه غير مهتم بالأساس بتشكيل شخصية درامية .. بقدر أهتمامه بتفعيل ذلك الصوت المتفجر والحماسي والراغب في تجاوز الواقع صوب تحقيق الألتحام بالتاريخ .

أما ثالث السمات التي يمكن لنا أن نرصدها من خلال عرض يوسف النقيب (عوداً) فهو متعلق بالتشكيل البصري للمشهد المسرحي .. حيث يمكن وبسهولة تحديد أنماط بصرية أولية وفي صورتها الخام كما حدث في مشهد السماح للسائحين اليهود بالعبور ... حيث شغل المخرج ذاته بالتأكيد على السمات الحركية المميزة للشخصية اليهودية .. لدرجة أنه قام بتحويل جزء من الأداء الحركي المميز للصلاة اليهودية أمام المبكى إلي سمة مميزة لنمط من الأنماط السائحين الأسرائيلين .

وكذلك الحال على مستوي الديكور حيث تم أختزال المكان في وحدات ذات مستوي رمزي أولي ولم يهتم بتشكيل واقعي أو شبه واقعي للمكان لكون المكان الواقعي مجرد خلفية غير هامة في حد ذاتها .. وأنما تتجلي أهميتها في قدرتها على دعم الحالة الأنفعالية التي يقوم عليها العرض وكي ما تتيح للمتلقي أستقبال المادة الوثائقية دون تشويش ناتج عن جماليات المشهد البصرية .

وبالتأكيد فأن كافة عناصر العرض الأخري يمكن لنا –عبرها- تنمية تلك السمات التي كنا بصدد تحليلها سواء المتعلقة بالأداء الأنفعالي أو تلك المتعلقة بالموسيقي والأغاني التي تتنوع بين النقد السياسي والتأكيد على الحالة الأنفعالية للشخصيات .

ولكن الهام هنا ليس التأكيد على مدي توافر تلك السمات أو التلذذ بمدي مطابقة العرض لمجموعة من السمات المسرحية المتكررة داخل طيف من العروض بقدر محاولة أستكشاف طبيعة التفكير التي تشكل ذلك الطيف ذاته والتي تبدو وبرغم طبيعتها الوطنية والحماسية - التي تستعيد لحظات مضيئة تاريخياً – شديدة التخاذل أمام الواقع الملتبس والذي يحمل من التناقضات ما يفوق تلك الحالة الوطنية الحماسية أو المتأسية على أوضاع الوطن وما آل إليه . أنها عروض تهرب من مواجهة الواقع وتستعيد الماضي لكونها غير قادرة علي مواجهة المشكلات التي يخلفها الواقع .. والتي يمكن أن تتم مواجهتها ليس عبر الولوج إلي الواقع بذاته فحسب بل وعبر الدخول في تفاوضات ومحاكمات لتأويلات التاريخ المتعددة كما حدث في بنص (باب الفتوح لمحمود دياب) أو (أغنية على الممر لعلي سالم ) .. ألخ.

أن تلك التفاوضات التي يمكن أن أن تفتح الباب لمواجهة قضايا الواقع ومحاكمة الماضي وتحليل أنماط التفكير والخطابات التي تشكل من خلالها الواقع هي أمر بعيد المنال على ذلك النمط - من المسرح المفرد الصوت – فهو يتخلي عن الأمكانات التي يتيحها الفن المسرحي لصالح التعلق بصوت أحادي وغير قادر على الدخول في جدل أو صراع مع الواقع أو مع التأويلات المخالفة للتاريخ.

ليست هناك تعليقات:

في انتظار العائلة ... ثنائية البراءة والذنب

  منذ الوهلة الأولى، يتجلى عرض في انتظار العائلة بوصفه دراما تعبيرية تدور في فلك العالم الداخلي لمحامٍ يسعى للموت في أجواء كابوسية، حيث تطال...