ربما كان عرض الغولة نموذج مثالي للتمزق بين الشرق والغرب .. بين الثقافة الشعبية والثقافة الواردة من الغرب .. صحيح أن العالم الثالث قد تجاوز تلك القضايا منذ عقود لكن ظهورها في ذلك الوقت وعلى خشبة مسرح الغد ومن أنتاج مسرح الدولة .. وبعد كل تلك السنوات ربما يؤشر لنا على تداعيات تلك الأزمات التي تعاني منها المنطقة التي تتصارع عليها قوي كلاسيكية عائدة (الاصولين/الغرب) ..
ويمكن لنا ومنذ اللحظة البداية استكشاف تلك الطبيعة الممزقة للعرض فهو يدور في أجواء سحرية وأسطورية بواحة معزولة داخل الصحراء حول شخصية (وداد/ إيمان رجائي) الشابة المتعلمة والتي هبطت إلي الوادي وحصلت على شهادة جامعية قبلما تعود إلي الواحة من جديد لتسقط فريسة في يد المعتقدات الشعبية والأسطورية والنظام الاجتماعي والمطامع الشخصية... الخ وذلك عبر مجموعة من الكوارث التي تحل بها بداية من تزويجها بشكل قسري من (الشيخ عدوان/ أحمد الطوخي) شيخ القبيلة العجوز مروراً بموته في ليلة العرس واتهامها بقتله ودفاع (الطبيب فؤاد/ محمد صلاح )عنها في مواجهة (الشيخ مسعود/خليل مرسي) شيخ القبيلة الجديد وشقيق المتوفى ... الخ
وبالطبع فأن عالم النص يحفل بالكثير من التفاصيل والعلاقات والأحداث التي تعرض لتصادم قيم (التمدن/الوادي) في مقابل قيم (التخلف/البدوية) بحيث يبدو العرض الحافل بالكثير من الحكايات الأسطورية والطقوس أقرب ما يكون شبهاً بالروايات الأستشراقية في القرن التاسع عشر من حيث بنيته التي تعتمد على المراوحة طيلة الوقت بين زمن واقعي (طبيعة الحياة بواحة بالصحراء الغربية في منتصف القرن العشرين) والعوالم السحرية التي يمكن فيها للمعتقدات الشعبية والأساطير التحقق كجزء من بنية ذلك العالم .
ولعل ذلك المدخل يمكن أن يكون مؤشر لنا على طبيعة العرض وطبيعة عالمه المسرحي ..... وذلك على الرغم من الصعوبات التي يمكن أن تواجهنا نتيجة لذلك التساهل الذي تعاملنا به في إطلاق ذلك التوصيف على نص (الغولة) للكاتب بهيج إسماعيل ... ذلك أن النص - وبرغم كل تلك التفاصيل التي يحفل بها والتي تصل في نهاية العرض إلي اعتماد نهاية سحرية للعقدة الدرامية - يظل يحمل وفي داخله ما يناهض تلك الرؤية الأولية التي يمكن لنا أن نستكشفها في العرض .
ولعل ذلك هو ما خلق ذلك التناقض بين الرسالة التي يقدمها لنا العرض وبين طبيعة العالم الدرامي وهو ما تبلور في صورة الأزمة الأساسية التي دمغت النص وانتقلت منه إلي العرض.
1- الذهب المحرم
شغل نص (الغولة) ذاته بتخليق مجموعة ضخمة من التفاصيل التي تحدد الطبيعة الأسطورية للواحة بداية من عنوان النص ومروراً بالكثير من التفاصيل التي يذخر بها الحوار الذي يشتمل - إلي جوار الأزمة التي يقدم لها (حكاية وداد ) - برسم العالم الخفي الرابض خلف الواقع .. ذلك العالم الذي لا يمكن رؤيته سواء من خلال النص أو على خشبة المسرح – في العرض – لكنه يمتلك برغم ذلك حضور طاغ في كافة أجزاء العرض سواء في ما يسرد على خشبة المسرح أو في يتم تحقيقه من خلال الطقوس التي تمارس على خشبة المسرح ( مثل مشهد البِشعه / طاسه النار) .
وبالطبع فإن حضور تلك العوالم المتجاورة يدفع بالنص نحو المراوحة بين الزمن الأسطوري (زمن الجن) وبين زمن الواقع (زمن النص) .. بشكل يتمازج فيه العالمين بالتدريج بما يسمح باختراق الحدود المميزة لكل عالم إلي الحد ذوبان حدود العالمين في النهاية مع الاختفاء السحري ( لفؤاد ووداد) من فوق جذع النخل التي تم تقيدهم فيها بهدف قتلهم .
أن ذلك التمازج هو ما يسمح لنا بتوصيف العرض بأنه أقرب شبهاً بروايات الأستشراق .. فداخل حدود ذلك العالم الذي نحن بصدد تحليله لا توجد حدود فاصلة وواضحة بين الواقع المعاش وبين العالم السحري .. وهو ما سمح للنص وفي النهاية بدمج تلك العوالم دون أدني شعور بالتناقض .. ففي مثل تلك العوالم يمكن لكافة تلك الظواهر أن تتجاور وتتعايش دون أدني أحساس بعدم الأتصاق .. فمن الممكن أن يؤمن أهل الواحة بأن الذهب محرم عليهم التزين به لكونه ملك للجن .. وفي المقابل يمكن أن تشغل الثروة وحيازتها أجزاء كثيرة من العرض .. وهو ما يتم تصديره إلينا وعلى مدار العرض ..
ولكن – ويا للعجب – فأن النص يحارب ذلك الطابع السحري للعالم من خلال جمل ذات طبيعة إنشائية مثل الجملة التي تأتي على لسان (الأم/سميرة عبد العزيز) وهي تموت (أمسكي قلمك (...) وازرعي الصحراء بالورد ..)
جمل يتم التأكيد عليها طيلة الوقت عبر دخول (عالم الوادي / مصر) كنموذج للتمدن والحرية من خلال شخصية (فؤاد ووداد) إلي ذلك العالم .. دخول يطرح على نص العرض أفق أخر وعالم ثالث (عالم الوادي) .. عالم يتجاور مع عالم الواحة وعالم الجن ... لكنه يقترب من عالم الجن بل ويكاد يكون المقابل والنقيض له ..فبدون عالم الجن يفقد عالم الوادي قيمته داخل النص والعكس صحيح .. وهو عالم يتم الحكي عنه طيلة الوقت لكنه عالم يستحيل بلوغه بعكس عالم الجن .. فالطريق مقطوع والصحراء الجرداء تفصل بيننا وبينه .. ولا سبيل لبلوغه ..
أن تلك الرؤية المتشائمة حول ذلك العالم (الوادي) يمكن لها أن تؤشر لنا على السبب الذي دفع بالنص نحو الهروب في النهاية نحو عالم الجن .. برغم معارضة الظاهرية للعرض / النص لهذا العالم .
أن كافة تلك العوالم التي تتفتح لنا داخل العرض تطرح علينا حالة من الارتباك .. فمن جانب هناك رؤية أستشراقية كلاسيكية تسود في النص من خلال المقارنات التي تعقد بين الوادي والصحراء .. التمدن والتخلف .. العلم والجهل ... الخ.
وإلي جوارها هناك رؤية نابعة من ذلك العالم .. رؤية تطل برأسها بشكل خافت بين الحين والأخر قبلما تعلن عن حضورها بشكل صريح في نهاية العرض .. رؤية ملتصقة بذلك العالم بل أنها تدفع بالنص نحو الاقتراب من طبيعة النصوص التي تحتفي بالأسطورة وبالثقافة الشعبية.
2- الطابع الاحتفالي
ربما كان ذلك التناقض الأساسي الذي يشطر النص كان بقادر على شطر العرض .. لكن مخرج(مصطفي طلبة) العرض أنحاز وبشكل واضح نحو التأكيد على تلك الرؤية الأستشراقية التي تنظر لعالم الواحة كعالم غرائبي متخلف يحتاج إلي عملية تثوير نابعة من ثقافة أرقي تمتلك المعرفة وتجابه الأسطورة .. ولعل هذا ظهر بوضوح من خلال عدد من السمات داخل العرض .
ففي البداية هناك ذلك التعامل الساخر من عالم الواحة وذلك عبر تحويل معظم شخصيات الواحة إلي أنماط شبه كوميدية مثل (الشيخ حابس/ حمدي أبو العلا والشيخ بكر/ محمود جليفون) والتي الرؤية التي أظهرت ذلك العالم بشكل هزلي في مقابل شخصيات (فؤاد ووداد والشيخ مسعود) وهي الشخصيات التي خلقت علاقة ما بعالم الوادي فهي جادة وقوية ...
كذلك ظهر ذلك الطابع الأستشراقي في التعامل مع عالم الواحة من خلال الديكورات (عمرو عبد الله ) والملابس (جمالات عبده) حيث يمكن وبوضوح استكشاف ذلك الطابع الذاخر بالألوان والاستعراضي للملابس البدوية والتي تجعلها أقرب شبهاً بالخيال الأستشراقي لعالم الشرق الأوسط والصحراء .أو من خلال تلك الخلفية التي تصور للواحة (النخيل/ الصحراء .. الخ)
وأخيراً يمكن رؤية ملامح تلك الرؤية في التعليق الراقص لـ (محمد سميح) ...
وهو ما يدفع بالعرض في النهاية نحو الانتصار لرؤية تم تجاوزها منذ زمن بعيد حتى على مستوي الخطاب الغربي رؤية تري أنه لا خلاص ممكن لتلك الثقافات التي لم تزل تحيا في زمن الأسطورة إلا عبر الوافدين من الثقافات الأرقى ..
وهي رؤية تبدو متعارضة وبشكل ما مع ذلك التمزق والانشطار بين الثقافتين داخل النص .
ولكن وبرغم تلك الرؤية التي تبدو مثيرة للقلق إلي حد بعيد يظل لعرض (الغولة) تلك الميزة الأساسية التي تميز بها وهي ذلك الطابع المسرحي الذي تميز به سواء من خلال الأداء التمثيلي لغالبية المشاركين في العرض أو عبر ذلك التنوع البصري الذي حققه المخرج عبر كافة أدواته كالديكور والملابس والموسيقي ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق