الجمعة، ديسمبر 05، 2008

الحوائط.. حين تكون الحوائط هي العالم

في قديم الأزمان.. وفي تلك اللحظة التي أدرك فيها الإنسان وجوده ككائن متميز ومفارق... ظهرت الحوائط والأسوار والحواجز والتي هي في مجملها ليست سوي تنويعات معمارية مختلفة لتحقق لمفهوم الحماية والحيازة على مستوي الواقع... فمع أدراك الإنسان لمفهوم الملكية ظهرت الحاجة للحماية ومن هنا أصبحت هناك حاجة ملحة لتحديد الملكية وحراستها والتأكيد عليها... فظهرت الحوائط كأول شكل معماري يسعى للتحديد والحماية والدفاع والمنع... ومن هنا أصبحت للحوائط أهمية وقيمة متنامية سواء في مجال تحديد حدود الملكية - سواء الشخصية أو العامة - من جهة أو التأطير والمنع والحجز من جهة أخري.... أو لنقل لمنع تحقق الرغبات وقمع الحرية في التنقل تحت دعوى الملكية والحيازة....
ومن هنا صارت مركز في كافة الأشكال المعمارية – وفي كافة الثقافات - كما أصبحت درجة الحماية وتأكيد السيادة والقوة تحسب بسمك وارتفاع الجدران سواء أكانت للمدن أم للمنازل أو المؤسسات العامة مثل السجون.... وسواء في هذا أكان الجدار / الحائط ليس سوي جدار كهف بدائي أم كان جدار ناري يهدف لحماية المواقع على شبكة المعلومات....
بالتأكيد فإن في ذلك الطرح الأخير الكثير من التوسع والعمومية التي تعتمد على الاستخدام المجازي للغة للتعبير عن الحماية ولكنه توسع لا يختلف كثيراً عن تلك العمومية التي تناولنا بها الحوائط.
أن تلك المقدمة الطويلة قد تبدو غير ذات صلة لو لم يكن عرض (الحوائط للمخرج والمؤلف/ محمد لطفي) قد أعتمد الحائط كوحدة أساسية في بناء ذاته... بداية من العنوان ومروراً بالملابس ووجوه الممثلين.... وحتى المناقشات النظرية التي جمعت بين الطبيب النفسي والمريض.
الحوائط هي الوحدة الأساسية في بناء ذلك العالم وهي المحور الذي تتشكل منه المشاهد وعبره تتحرك الشخصية بين مستويات زمنية مختلفة وبين الواقع والخيال ومنها تخرج الشخصيات التي تقتحم مجال (المريض وأسرته) وهي الأخر والغريب... والمساند للطبيب... الخ 
وبهذا المعني فأن الحوائط كانت هي كل ما في عالم العرض... الخ.حُملت بكافة المعاني وأصبحت هي كل شيء وأي شيء في عالم العرض إلي الحد الذي تحولت معه لقيمة مطلقة وقادرة على أن تحمل كل المعاني فأصبحت هي الحجز والمنع والاقتحام والاغتصاب والفساد والنجاح والعقاب... الخ .
ولعل ذلك ما يبدو بوضوح في تلك الحرية المطلقة التي عرض بها المخرج للواقع من خلال المرور السريع والعابر والغير مهتم بما يسهم في تشكيل تلك المظاهر الأخلاقية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية.... الخ فكل شيء صار قابلاً للإحالة إلي الحوائط وصالح للحكم عليه بشكل نهائي طالما أصبح مرتبطاً – ووفق منطق العرض - بالحوائط التي صارت هي كل شيء.
ولعل تلك الإحالة كانت هي مرتكز العرض الأساسي في تخليق تلك الطبيعة الميلودرامية لشخصية البطل والتي تمثلت في تلك النكبات الأسرية المتتالية التي حاقت به سواء على مستوي الانحراف الأخلاقي للابنة والابن أو الانقلاب الفكري لشخصية الابن إلي أفكار الجهاد أو حتى في تلك المناقشات التي تتناول التربية والنظام الأسري وعلاقته بالمنظومة الاجتماعية الأكبر.
الخ.ة أخري أصبحت وحدة الحائط (المشكلة من ملابس الممثلين ووجوههم) هي المركز الذي يتحرك من خلاله العرض بين عدة مستويات زمنية متعددة بداية من زمن عازف الكمان والذي يمكن لنا أن نكتشف وبعد قليل أنه لا يمكن لنا تفهم وجوده إلا كتأويل غير قابل للدمج داخل أي مستوي زمني داخل العرض ومروراً بزمن الجلسة وزمن الأسرة وزمن الطفولة وأزمنة التخيل... الخ . فالحوائط كانت هي همزة الوصل بين كافة تلك المستويات الزمنية القابلة للإيقاف والإعادة... فهي الثابت الوحيد بذلك اللون الحار والقوي (اللون الأحمر). ولم يفلت منها زمنياً سوي شخصية عازف الكمان الصامت والمحلق في عالمه الخاص الذي لا يمكن اختراقه سوي من الطبيب بشكل شبه حصري... مما جعله حمل غير مريح ومزعج.. فهو غير مرتبط بالحوائط وغير فاعل إلا من خلال كمانه الذي يستعمل كأداة تعذيب وهو ما نفي عنه تأويل الشخصية كتجلي لشخصية المريض في مستوي زماني مختلف أو اشتقاق منها. 
أن تلك الحركة السريعة والدائبة على مستوي الزمن والفضاء والتي أكدت لسلطة الحوائط... كانت مدخلاً شديد الملائمة لتفسير كافة التحولات التي مرت بها الأسرة بشكل ميلودرامي فلا حاجة لمنطق الواقع طالما هناك الحوائط وطالما هناك الجنون والتداعي والمناقشة... 
فالحوائط تكتسب شرعيتها من الجنون والميلودراما تتحطم عبر الكوميديا والجلسة هي المدخل الأساسي والمنطقي لتحويل الجنون إلي مرتكز أساسي مكن المخرج من طرح أي منطق وأي تداعي وفتح المجال أمام ذلك الاكتناز الذي تميز به العرض علي مستوي الموضوعات وجعل من الممكن أن تتجاور تلك الموضوعات.. كما مكنت المخرج من أن يخلق من تلك الموضوعات المختلفة نسق خلق من خلاله رؤية للعالم لا تري في العالم سوي الحوائط التي يرد إليها المريض كل شيء ويبرئ الطبيب ساحتها طيلة الوقت.... 
ولكن لنعد إلي البداية.. فبين التجلي المعماري للملكية والمتمثل في (الحائط/ الجدار) وبين التجلي الأستعاري للحوائط داخل العرض يوجد علاقة باهته وغير مكتملة اللهم في حدود ذلك التفسير الممكن للعرض كبكائية لفقدان الملكية ولسقوط المريض اجتماعياً عير سقوط أسرته أخلاقياً وعقائدياً واقتصادياً... بل أن سقوطه يبلغ عقله ذاته.. فلقد فقد ملكية العقل وصار خاضعاً لسلطة عقل الطبيب.
وهو ما جعل الحوائط تتخذ وجه المنع والطرد.. لكن تلك العلاقة الممكنة سريعاً ما تتحطم مع تلك الإحالات السريعة والدائبة من قبل العرض والتي تجعل من الحوائط صالحة للتأويل وفق أي معني وتحت أي مفهوم تماماً كشخصية العازف.
ولكن وبرغم كل ذلك فلقد ظل العرض محتفظاًَ بقدر كبير من الحيوية والقدرة على التفاعل مع المتلقين عبر ذلك الإيقاع السريع والمتلاحق الذي تميز به العرض والمؤدين إلي جانب تلك البراعة التقنية العالية التي تميز بها العرض ومخرجه.




ليست هناك تعليقات:

المحاكاة الساخرة (الباروديا) .... ماكينة الهدم والتحطيم

يبدأ المشهد بفريقين لكرة القدم يقفان في مواجهة بعضهما البعض ... الأحمر إلي يسار المتفرج والأبيض إلي يمينه، ربما يبدو المشهد مألوفاً ودلال...