المخرجة المصرية ... قمع وإحتفاء
(1)
لعل الدراسة التي قامت بها (سوزان أ.باسنيت ماجوير) تحت عنوان "نحو نظرية لمسرح المرأة"(التفسير والتفكيك والأيديولوجيا – اختيار وتقديم : د.نهاد صليحة)(1) نموذج مثالي لحالة القلق التي تسود أوساط النقد النسوي في تعريف المسرح الذي تنتجه المرأة حيث عبرت بدراستها تلك عن الكيفية التي يندفع بها هذا التيار النقدي نحو إيجاد عوامل وحدود مشتركة يمكن خلالها تحديد وحصر السمات المميزة للإنتاج الفني/ الجمالي الذي تبدعه المرأة ، أو - وكما تراهن تلك الدراسة - تخليق إطار عام يمكن من خلاله جمع كافة التجارب النسائية في أي مكان وتحت أيه أوضاع وفي أي زمان ممكن .
لكن في النهاية لم تجد الباحثة في رحلة بحثها من سبيل سوي خوض غمار عمل النسويات الراديكاليات اللواتي اتخذن من تحطيم نموذج
(1)
لعل الدراسة التي قامت بها (سوزان أ.باسنيت ماجوير) تحت عنوان "نحو نظرية لمسرح المرأة"(التفسير والتفكيك والأيديولوجيا – اختيار وتقديم : د.نهاد صليحة)(1) نموذج مثالي لحالة القلق التي تسود أوساط النقد النسوي في تعريف المسرح الذي تنتجه المرأة حيث عبرت بدراستها تلك عن الكيفية التي يندفع بها هذا التيار النقدي نحو إيجاد عوامل وحدود مشتركة يمكن خلالها تحديد وحصر السمات المميزة للإنتاج الفني/ الجمالي الذي تبدعه المرأة ، أو - وكما تراهن تلك الدراسة - تخليق إطار عام يمكن من خلاله جمع كافة التجارب النسائية في أي مكان وتحت أيه أوضاع وفي أي زمان ممكن .
لكن في النهاية لم تجد الباحثة في رحلة بحثها من سبيل سوي خوض غمار عمل النسويات الراديكاليات اللواتي اتخذن من تحطيم نموذج
المسرح طريقاً يتواصلن عبره مع متلقيهم الأفتراضي وهو متفرج يتم تصدير وعي راديكالي له حول قضايا النسوية من المساواة الجنسية مع الذكور وحتى قبول السحاقيات اجتماعياً . وذلك عبر إسقاط الحواجز الفاصلة بين المؤدين والمتفرجين بل وتحطيم حالة العرض ذاتها لصالح المناقشة وتبادل الخبرات الحياتية بين الحضور .. وهو ما دفعها للقول" هل سقطت الحواجز بين الطرفين لدرجة النفي التام لمفهوم المسرح ؟ ويدفعنا هذا التساؤل إلي تساؤل آخر حول القضية المحورية التي يرتكز عليها كل أنواع المسرح المسماة بمسرح المرأة وهو : ألا تمثل ظاهرة مسرح المرأة تناقضاً في ذاتها ؟ أو بتعبير أدق : هل تفترض هذه التسمية أن المسرح نشاط ذكوري ؟""(التفسير والتفكيك والأيديولوجيا – ص142 )(1)
أن تلك الأسئلة التي شغلت "أ. باسنيت" يمكن لها أن توضح لنا
أن تلك الأسئلة التي شغلت "أ. باسنيت" يمكن لها أن توضح لنا
حجم/ المعاناة التي تشعر بها المنتميات / المنتمين لهذا التيار في معركتهم مع الخطاب الذكوري الذي تحول مع الوقت إلي خطاب ميتافيزيقي يبزغ لهم في أي أرض حاولوا وطأها بل ويدفعهم إلي تحطيم كل ما يقع تحت أيديهم بدعوي ذكوريته ...
ولكن هل يكفي أن نحطم العلاقات بين الخشبة وصالة المتفرجين أو أن نحول الجمهور إلي مشارك بالعرض كي ما نكون أمام عرض تنتجه المرأة – كحد أدني لذلك النمط – بالتأكيد إن ذلك لايرتبط بالمرأة فحسب بقدر ما هو نمط يمكن أن تشترك فيه العديد من التيارات المسرحية والظواهر شبه المسرحية ...
اذا فإن العلاقة بين المؤدين والمتلقين / المشاركين ليست هي المجال الذي يمكننا من خلاله التوصل إلي ما يجمع كافة النساء اللواتي يعملن بمجال الإخراج المسرحي برغم ما قد نصادفه من حالات يمكن لها أن تؤكد ذلك الطرح ...
وهو ما يطرح من الأساس إمكانية إيجاد جماليات مشتركة بين عمليات الإبداع النسائي في مجال المسرح – على الأقل بالنسبة للواقع المصري – وهو ما يصوغ لنا بالتالي من قبيل التساؤل عن المصوغات المنطقية التي تتيح لنا أن نتحدث – وبشجاعة – عن خصوصية مميزة للتجارب النسائية في مجال الإخراج المسرحي بمصر ؟ بل وكيف سنتمكن من اكتساب شرعية التحدث عن مثل تلك الخصوصية المزعومة للتجارب النسائية المبعثرة جغرافياً وزمنياً ، خاصة إذا ما كانت تلك التجارب مفتقدة – في معظمها – لذلك الحس الثوري الذي يحدد ويصنف النسويات عن غيرهن ؟
هل سننطلق من تلك التعبيرات البلاغية الفضفاضة من قبيل" الحساسية الأنثوية في التعامل مع المشهد المسرحي ... إلخ " ؟ أم نرفع راية التميز النوعي والهوية الجنسية كعامل فسيولوجي مُحدد وحاسم – في آن واحد – للتفريق بين ما سنطلق عليه الإبداع النسائي في مقابل الأبداع الذكوري مسلمين – بالتالي – بكل ما قد يترتب على ذلك من اعترافات ضمنية من قبيل التسليم بأن للصفات التشريحية والفروق الجنسية أثراُ واضحاً في تحديد هوية ونوعية العمل الفني ، وهو ما كان ولا يزال المدخل الأيسر لدعاة التفوق النوعي للذكر على الأنثي ... كما يسهل الطعن فيه من خلال أبسط الاختبارات .... ؟!
إن كل تلك الأسئلة السابقة – وعلى الرغم من مشروعيتها البادية – هي أسئلة خادعة وذات طوية سيئة .. كونها تفترض – وبشكل مسبق – وجود نمط ، أو مجموعة من الأنماط ، يمكن حصر وتحديد كافة التجارب النسائية ضمن حدودها دون الأخذ في الاعتبار ما قد يعترض ذلك من تنويعات غير محدودة ، ولذلك وتجنباً للسقوط في حبائل تلك الحلقة المفرغة سنحاول الأنطلاق من أكثر الوقائع المادية بساطة وبروزاً والتي تكشف لنا عن وجود عدد – غير محدد أو مصنف – من الأصوات النسائية - في مجال الاخراج المسرحي - على ساحة الحركة المسرحية في مصر .
لن نحاول –بالتأكيد- حصر أو تصنيف تلك الأصوات داخل نموذج – أو نماذج- حددت ووضعت سلفاً ، بل سنحاول استكشاف تلك الشبكة المعقدة والثرية التي تحدد الاطار – أو الأطر- التي تُكسب ليس فقط الأسئلة السابقة مشروعيتها لدي الكثير منا .. بل وتشكل أيضاً بعض الإجابات الممكنة والتفسيرات المقبولة علي مستوي التحليل والتصنيف .
(2)
بشكل يقبل الطعن فيه بالتأكيد سنقوم باستخدام لفظ " الاصطناع ( أي توزيع الدور في علامات)" ( جروتوفسكي- مسرح جروتوفسكي الفقير- ص 20)(2) ونقوم بعزله عن الإطار الذي وجد داخله عند جروتوفسكي ونقوم بتوسعة صلاحياته لنتمكن من وصف الطريق الذي يستخدمه المخرج/ المخرجة لإنجاز عمله الإبداعي على مستوي تخليق العلاقات فوق خشبة المسرح أو تخليق المشاهد المسرحية داخل الفراغ المسرحي بشكل يمكننا من رؤيتها وقراءتها ..
إن ذلك المدخل سيكشف لنا عن واقع شديد الثراء ، واقع تتم فيه عمليات إنتاج تلك العلامات فوق أرض تجمع عشرات الموضوعات والعلاقات الممكنة التي تتدخل -بل وتشكل – رؤية المخرج / المخرجة .. سواء بوعي منه أم دون وعي ....
وهو ما يجعل من "الاصطناع" ليس فقط تجلياً نهائياً لعشرات الموضوعات والعلاقات الممكنة التي يطرحها النص الدرامي المكتوب سلفاً – أو ورشة العمل الجماعي- بل إنه يجعله أيضاً كاشفاً عن المسارات التي سلكها المخرج/ المخرجة وهو في سبيله لإنجاز عمله الفني .
ويمكن لنا أن نتخذ من مشهد ممارسة السحاق بعرض (كلام في سري) نموذجاً يكشف لنا الكيفية التي يتم من خلالها اصطناع العلامات المشكلة للأدوار المسرحية وذلك من خلال الحضور القوي لفعل السحاق الذي يطرحه النص والذي يقدم عدد غير متناهٍ من الطرق والأساليب التي يمكن لها أن تشكل المشهد ... لكن المخرجة نحت في عملية اصطناعها للعلاقة (الفعل) نحو نفي الفعل ذاته لما يكتنفه من محظورات تصعب من أحتمالية قبوله على خشبة المسرح بكل ما قد يكتنفه من خشونة ... لقد قام العرض باستبدال للفعل الجنسي بمتتالية حركية لا يمكن استجلاء معناها ألا عبر الدخول في عمليات تأويل ...
أي وبمعني أخر لقد وُجد ذلك الموضوع (السحاق) فوق خشبة المسرح عبر نفيه ليس لكونه فعلاً محرماً اجتماعياً ودينياً فحسب بل ولكونه من غير الممكن التعبير عنه إلا عبر نفيه وهو ما لانجده في المشاهد التي تتحدث فيها الشخصيات عن خبراتها الجنسية (الطبيعية) وتقدمها بصرياً من خلال العلاقة مع ذلك الذكر الجالس وسط الجمهور .... بالتأكيد إن تلك العلاقات التي تم التعبير عنها والتصريح بها تمت وسط حالة من الاحتراز لكنها لم تنف بشكل نهائي من الفضاء المسرحي بل تم دمجها داخل التكوين البصري وفتح المساحات الكافية لها لتقدم ذاتها دون الدخول في عمليات تأويل معقدة كتلك التي يستلزمها فعل السحاق ....
قد يبدو أننا لم ننجح حتى الآن في التقدم صوب ما كنا بصدد استكشافه بل وعلى العكس قد يبدو للرائي أننا ندور بحلقة مفرغة .. ففي النهاية ما نقوم بوصفه – حتى الأن- يمكن تطبيقه وكما هو واضح على أي تجربة إخراجية دون الحاجة لتقديم توضيح حول جنس القائم على تلك التجربة .. بل ويمكن الدفع أيضاً بأن ما قيل كان من الممكن أن يطرح دون الحاجة لكل ما تم وبشكل أيسر وأبسط ....
(3)
ولكن حتى يتم استجلاء ما نحن بصدد رصده ربما كنا بحاجة إلي العوده إلي "بورديو" الذي يصف الكيفية التي يتم بها إخضاع الجسد الأنثوي عبر " تعليم النساء على شغل الفراغ .. وعلى المشي وعلى تبني أوضاع جسدية ملائمة "(بير بورديو – السلطة الذكورية –ص48)(3) بشكل يتيح وييسرعمليات السيطرة ويسهم في تشكيل الخطاب الذكوري الذي لا يستطيع اكتساب شرعيته إلا عبر تلك العمليات المعقدة التي تؤكد الخضوع لتلك القواعد التي تبدو هامشية داخل خطابه ...
ومن هنا نعود إلي الاصطناع الذي يتبني تلك الأوضاع الجسدية الملائمة للنساء ويتعامل معها في -الأغلب الأعم- دون تفكير في مصادرها الثقافية أو الفسيولوجية ومن ثم يعيد دمجها داخل العرض المسرحي خاضعاً لذلك الخطاب والذي يطرح نفسه من خلال عمل المخرج عبر تلك التشكيلات الأدائية التي تبدو (كأوضاع/ أفعال) ممكنة ومقبولة أو مرفوضة أو حتى - وكما في المثال السابق- من غير الممكن التعبير عنها (كممارسات جسدية) دون نفيها لما تسببه من خطورة على الخطاب الذكوري الذي لا يمكنه أن يوجد دون قمع أي أمكانية لعلاقات أو أفعال جنسية مثليه ....
وإذاً فإن ذلك العالم الذي يتشكل أمام المتلقي هو في مستوي ما من مستويات التحليل ما هو إلا إعادة إنتاج لذلك الخطاب الذكوري الذي يمتلك من القوة ما يجعله قادراً على اختراق أي فعل مسرحي سواء كخطاب مركزي أو كموضوع ثانوي يمرعبر تلك المساحات والثغرات المفتوحة له دائماً والتي يتيحها الفعل المسرحي كعمل حي يعتمد على الوجود الفعلى للجسد المنتج للعلامات والذي يمكنه تخطي حتى تلك الأفعال القوية التي قد يقدمها النص المسرحي (كصفعة نورا للباب في مسرحية أبسن الأشهر بيت الدمية) ... وليس هذا فحسب بل واستيعاب تلك الأفعال النافية له - والتي ينتجها الخطاب المضاد له - داخله وتحويلها إلي جزء من تكوينه عبر تلك العلاقات التي يتداخل فيها ذلك الفعل مع ما قبله وما بعده من أفعال تدفعه في الأغلب إلي اكتساب صورة مختلفة عن تلك التي صمم من أجلها في النص المسرحي ...
عند هذا الحد نكون قد عبرنا تلك البوابة التي يمكننا من خلالها التفريق بين ما يمكن أن ينتجه التأويل الممكن لأي فعل أدائي فوق خشبة المسرح وبين وجود ذلك الفعل كحدث ناتج عن الإمكانات التي يطرحها الواقع الشديد التعقيد للعناصر والمواضيع المشكلة للعرض المسرحي على المبدع والتي تشكل مادة عمله والتي تتسرب من بين يديه إلي داخل العمل سواء من خلال ما يقوم هو به فعلاً من عمليات بهدف إنتاج العرض المسرحي أو ما قد يصاحبها ويخترقها من أفعال تفسيرية من قبل الممثل/ الممثلة للدور المسرحي أو حتى أفعال عفوية ينتجها الممثل/ الممثلة .... إلي جوار ما قد يتداخل مع هذا من أسلوب في تصميم الملابس المسرحية أو الديكور ... إلخ .
وهو ما سوف يقدم لنا الارضية المناسبة لتفهم الكيفية التي يتم من خلالها اختراق الخطابات الكبري - المسيطرة على المجتمع - للعرض المسرحي وتشكيل الأطر الاساسية لمفهوم المخرجة المسرحية والجماليات التي تنتجها عبر ممارستها المسرحية .
(4)
لنحاول الآن التواصل مع تلك القوي المؤسسة لمفهوم المخرجة المصرية والتي لا تتوقف قيمتها عند مجرد تحديد الدور الاجتماعي - الذي يتم من خلاله ولصالحه تأطير تلك المهنة وتحديد مدي القبول الاجتماعي الذي تحظي به - فحسب بل وتحديد المهام والموضوعات التي يمكن لممارسة تلك المهنة التعامل معها والموضوعات التي تقف كعقبات في طريقها والتي تحجم من نموها كظاهرة ... إلخ .
أو بمعني آخر فنحن سنحاول التواصل مع كافة الموضوعات التي تشكل المخرجة سواء كوجود أو كمنتج لموضوعات فنية وجمالية .
ويمكن على سبيل الحصر وبشكل أولي تحديد تلك القوي من خلال العودة إلي الموسسات الاجتماعية الأكبر والأهم والتي تصنع الأسس التي يمكن من خلالها الدخول إلي ذلك العالم مع ضمان تجنب السقوط في ذلك الركام من الموضوعات التي يمكن لها أن تغمرنا- إلي ما شاء الله- والتي تتنوع بين ما هو عام وبين ما هو شخصي كالظروف الاجتماعية الخاصة بكل مخرجة أو طبيعة العرض .....إلخ
أولاً المؤسسات الدينية : إن المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية تتجه ومنذ أمد بعيد صوب تبني خطاب عدائي تجاه الفن المسرحي ؛ ربما لما ارتبط به المسرح من خطابات تصنفه كفعل معاد للسلطة الدينية وهذا إلي جانب ذلك الخلط الاجتماعي بين ما هو مسرحي وما هو منحل أخلاقياً والذي يستمد تبريراته من الظروف التي صاحبت نشأة ذلك الفن والخطابات الي كانت تصنف الممتهنين له قبل - وبعد - دخول المسرح بشكله الأوربي كعناصر منحرفة اجتماعياً مشكوك في سلوكها ودوافعها وإمكانية قبولها دينياً واجتماعياً ... ولعل هذا ما يمكن له أن يفسر لنا تلك العدائية التي يمكن أن تواجهها المخرجة المسرحية من قبل تلك المؤسسات الدينية التي يتنامي تأثيرها ويزداد خطابها راديكالية يوماً بعد يوم ... خاصة إذ ما أضفنا إلي ذلك الصورة التي يقدم بها الخطاب الديني الرسمي والشعبي المرأة كشريك للشيطان ووجه له في ذات الوقت مما يجعل أي فعل تقوم به فعلاً مشكوكاً في نوياه فما بالنا وهي تقوم على إنتاج الفن المسرحي ...
لكن أكثر تلك الخطابات عدائية ورديكالية هو خطاب تيار الإسلام السلفي الذي طرح نفسه كخيار اجتماعي وسياسي في الفترة التي تلت هزيمة (يونيو 1967) التي دفعت به- كخطاب ديني وطائفي - إلي التفشي البطىء داخل المجتمع قامعاً ومستوعباً في طريقه عدداً من الخطابات التي تشكلت خلال صعود الطبقة الوسطي الصغيرة داخل المجتمع المصري وكذلك الخطابات الدينية التي كانت مطروحة على الساحة الدينية .. أو بمعني آخر لقد استطاع ذلك الخطاب الراديكالي أن يحدث قطيعة مع تلك الخطابات التي كانت تشكل المجتمع المصري وتوجهاته تجاه المرأة بصفة عامة والمرأة المبدعة بشكل خاص لصالح توجهاته التي تحمل -ضمن ما تحمل - رفضاً قاطعاً لإمكانية استيعاب المرأة ككائن مكتمل الأهلية داخل المجتمع وهو ما انعكس داخل المجتمع في رفض لوجود المرأة ككائن اجتماعي يمكن تحديد هويته الفردية ، وهو ما يعني بالضرورة افتقادها لأهلية القيام بأي مهمة قيادية وهو ما قد أسقط بعد تنقيحه وتصفيته من وجهه المتجهم علي الحركة المسرحية " حيث لا تحتل المرأة سواء علي المستوي الإبداعي أو التنظيري سوي هامش شديد الضيق يزداد ضيقاً إذ ما كان هذا المستوي الإبداعي متمثلاً في الإخراج أو التأليف وهي عمليات إبداعية شديدة الهيمنة علي اللعبة المسرحية تمكن القائم عليها من احتلال موقع متقدم داخل التراتبية الهرمية للسلطات المحركة والمشكلة للعملية المسرحية " (محمد مسعد - المرأة وتوزيع السلطة داخل اللعبة المسرحية (4) .
ويكمن لنا ونحن في سبيلنا لكشف وتوسعة تلك المساحة التي نحن بصدد رصدها الإشارة إلي ذلك الوجه الطائفي للخطاب الديني الراديكالي ( كما يري د. نصر حامد أبو زيد في كتابه المرأة في خطاب الأزمة )(5) وهو ما يجعله خطاباً عدائياً وعنيفاً إذ ما اقتضي الأمر ضد كافة القوي التي تمتاز خطاباتها بقدر من الأختلاف وذلك لما تسببه من خطورة على وجوده.
ويمكن لنا أن نلمح أيضاً في ذلك الإطار الخطاب المقاوم والمضاد للخطاب الرسمي للدولة وهو خطاب تشكيكي يستند إلي فقدان النظام للشرعية وطبيعته القمعية في دعم تحويل تلك العبارت التي يستخدمها النظام في تجميل صورته القمعية عبر استيعابها داخل خطاب يدينها ويقدمها كصورة للميل التعسفي للنظام في فرض مشاريعه .. بل إنه يميل في ذلك الإطار إلي استعادة الخطاب الذكوري وعباراته لمقاومة ذلك الخطاب ذي الطبيعة الرسمية والطبقية .
وعند هذا الحد يمكننا أن نري الحدود والملامح التي ترسمها المؤسسات الدينية – في مجملها وبشكل شديد العمومية - لمفهوم المخرجة وطبيعة وجودها كحدث طارئ وغير قابل للاستمرار نتيجة عدم جاهزية المرأة للوجود ككائن اجتماعي متمتع بفردية وشخصية مستقلة من جهة ومن جهة أخري كعنصر مشكوك في قدراته القيادية وما يمكن أن تؤدي إليه قيادتها وهي صورة الشيطان وشريكته . وهو ما يوضح لنا طبيعة الموضوعات التي تتجه إليها المخرجات المصريات اللواتي يشعرن بوطأة ذلك الخطاب القمعي النافي لوجودهن من ناحية والمراقب لكل ما ينتجنه من ناحية أخري بشكل غير مباشر بالطبع . والتي تجىء في صورة تمرد ضد هذه الؤسسات بكل ما تحمل من قيم قامعة لصورة المرأة من جهة و حالة من الخضوع لقيمه التي تتسرب عبر عملهم سواء من غير وعي منهن بها أو في صورة تدخل واع أوغير واع من قبل مجموعة العمل التي تشكل في أحد تجليتها صورة لذلك الخطاب القمعي .
(5)
إن الخطاب الإقتصادي الحاكم للمجتمع يمكنه أن يكشف لنا عن كيفية تشكل مفهوم المخرجة المسرحية بشكل مختلف قليلاً عن ذلك الذي يطرحه الخطاب الديني (أو الذي يتلبس الدين) .. وذلك عبر دراستنا لمجموعة من القضايا التي يطرحها هذا الخطاب الذي يصب هو الآخر في خانة قهر المرأة بصفة عامة ..
أول تلك القضايا هي التغيرات الناتجة عن تحول النظام الاقتصادي - في مصر بذات الفترة التي سبقت الإشارة إليها- من الاقتصاد الموجه (أو شبه الموجه) من قبل الدولة إلي نظام اقتصادي هش ومرتبط بالنظام السياسي إلي حد كبير تتداخل فيه قيم الاقتصاد الرأسمالي مع مجموعة من التحويرات والاضافات التي تصب في صالح تفسخ المنظومة الاقتصادية وعدم إتاحة الفرصة لها كي ما تنمو بعيداً عن جهاز الدولة وهو ما أنتج حالات الفساد الإداري والسياسي التي يشهدها المجتمع حالياً وقادت النظام الأقتصادي إلي شفا الانهيار أكثر من مرة لولا أن الارتباط بين تلك المنظومة السياسية والمنظومة الاقتصادية حالت دون انهيارها حتى الآن ..
وقد أدي تنامي تلك الأزمة إلي زيادة عرض اليد العاملة (النسائية) داخل سوق العمل وهو ما يعكس بشكل ظاهري وجود اختراق للخطاب الديني الذى يرفض إشراك المرأة في أي نشاط اجتماعي أواقتصادي لكنه وحلاً لتلك المعادلة التى تمارس ضغطاً عليه - وعلى قدرته كخطاب - يقوم باطلاق عبارات مثل" أن المرأة لا يجب أن تخرج للعمل إلا للضرورة الاقتصادية " ( د. نصر حامد أبو زيد – المرأة في خطاب الأزمة ص 29)(5) وهو ما يعني أن خروج المرأة للعمل يجب أن يرتبط في المقام الأول بوجود حاجة اقتصادية وليس لتحقيق الذات أو لوجود سوق عمل مفتوح ويقبل بالمساوة بين الرجل والمرأة.. وهو ما يعني بالنسبة لبحثنا عدم وجود رابط قوي أو حقيقي بين المخرجة ومهنتها (الإخراج المسرحي) لكون تلك المهنة لا ترتفع عن مستوي الهواية في معظم الأحيان ، وهو ما يجعل من ممارستها فعلاً زائداً عن حاجة المجتمع وعن حاجة الخطاب الذي يدفع بالمرأة لسوق العمل ويقوم باستغلالها تحت شعار حاجتها الاقتصادية للعمل في مقابل عدم حاجة السوق لوجودها كيد عاملة رخيصة .
إن الأخراج المسرحي إذا هو نشاط زائد عن حاجة المجتمع الاقتصادية بل ومعطل وغير منتج وبالتالي فهو نشاط طارد للنساء من ساحته لكونه غير مرتبط بالحاجة الاقتصادية الملحة ..
ربما يفسر لنا ذلك قصر عمر معظم التجارب النسائية في الإخراج المسرحي وخفوتها السريع أمام خطاب يطرح على المرأة أما التواجد المجزي اقتصادياً أو التفرغ لمهام المنزل والخضوع للخطابات الداعية لعودتها إلي المنزل والاكتفاء بدور الأم أو الزوجة أو حتى الابنة بكل ما في تلك الأدوار من نفي لوجودها ككائن مكتمل الأهلية .
ومن ناحية أخري يفسر لنا غياب معالجة أوضاع العمل بالنسبة للمرأة عن معظم العروض النسائية (التي أمكنني حصرها) حتى تلك التي يبدو فيها وبوضوح التوجه النسوي مثل عرض" كلام في سري " ، " غربة " لليلي سليمان ، أو "رسالة إلي أبي" لنورا أمين ...إلخ
بالطبع سيبدو من المبالغ فيه إصدار أحكام عامة ونهائية حول موقف المخرجات المسرحيات في مصر من قضايا عمل النساء والمشاق الاقتصادية والبدنية التي تواجه كل النساء العاملات .. لكنه يمكن أن يؤشر لنا بالحدود التي يمكن تلمسها في دراسات أخري أكثر اتساعاً تخصصاً بخصوص تلك النقطة ..
لكن لنعد إلي زاوية أخري في مجال الخطاب الاقتصادى الذي يؤسس للمرأة كسلعة يمكن المتاجرة بها وحيازتها وإجراء عمليات بيع رمزي أو مبادلات .... إلخ
هنا نستطيع أن نلمح عنصراً شديد الحيوية والبروز في معظم الدراسات التي تتناول الخطاب الذكوري إنه الشق الاقتصادى في علاقات السيطرة على المرأة والذي يدفع ويشكل الخطاب الذكوري نفسه .. وهو عنصر شديد البروز يمكن أن نجده بدءاً من علاقات الزواج والميراث مروراً بالنقاب وفتيات الإعلانات .. إن تسليع المرأة وتحويلها إلي مادة يمكن امتلاكها ويجب إثبات حيازتها والمحافظة عليها والدفاع عنها أحياناً أو استخدامها كسلعة يمكن طرحها والمتاجرة بها يقدم لنا جانب آخر لمفهوم ودور المخرجة المسرحية التي يصعب وضعها داخل علاقات المتاجرة أو الحيازة - إلا تحت ظروف خاصة جداً – تمثل أزمة في أمام الخطاب الذكوري الذي لا يستطيع التعامل مع المرأة التى تقدم ذاتها ليس ككيان مكتمل الأهلية فحسب بل وكفاعل قيادي داخل عملية إبداعية تستلزم وجود جماعة بشرية تتفق على اختيارها – أو القبول بها – كمركز أو كمرجعية وقيادة فعلية للإنتاج المسرحي .. وهو ما يدفع الخطاب الذكوري عبر حامليه إلي الدخول في صراعات عنيفة بهدف نفي المرأة أو دفعها نحو الخضوع لذلك الخطاب عبر عمليات اصطناع عالمها المسرحي سواء بقبولها له وخضوعها لذلك الخطاب أو عبر تسلل ذلك الخطاب عبر عمليات اصطناع الأدوار المسرحية من قبل الممثلين ... وهو ما يمكن أن يعيدنا إلي " بورديو " من جديد فهناك وداخل العرض المسرحي يعاد إنتاج عملية أخضاع الجسد الأنثوي للسيطرة الذكورية وهو ما يحلحل تلك الأزمة التي يمكن أن يدخل فيها ذلك الخطاب باستيعابه للمخرجة وتحويلها إلي جزء من خطابه ومعبرة عن آليات عمله ..
بالتأكيد إن ذلك لا ينفي وجود تجارب في المسرح المصري لمخرجات قاومن تسلل تلك القيم الذكورية إلي أعمالهن سواء عبر اصطناع علاقات بصرية كاشفة عن ذلك التناقض الكامن داخل تلك الأوضاع الجسدية المرتبطة بالمرأة مثل تحطيم ريم حجاب بعرض "عرض حال" للخطاب الشهواني / التسليعي لجسد المرأة من خلال رقصة البطن عبر إضافة عبارات الخطاب السياسي الرسمي على لسان الممثلة التي تقوم بأداء تلك الرقصة ... وبرغم أن ذلك تم في إطار مختلف كان يهدف وبالمقام الأول إلي فضح ذلك الخطاب السياسي الرسمي لكنه وبالمقابل كان كاشفاً عن الطبيعة السلعية والاستهلاكية لجسد المرأة من خلال رقصة البطن ..
(6)
يقدم الخطاب الرسمي لغة غاية في الانفتاح تجاه المرأة وقضاياها وإن كان ذلك يتم في غالب الأحيان لتحقيق مصالح خاصة بالنظام سواء تعلقت بمحاربة التيار الديني /السياسي وخطابه عبر تخليق خطاب مضاد، أو لاكتساب تأييد فئات وشرائح اجتماعية تحمل وجهة نظر أكثر انفتاحاً تجاه قضايا المرأة، أو لتجميل وجه النظام القمعي عبر تأييد قضايا غير مقلقة سياسياً كما أنها تلاقي مقاومة من قبل أجنحة النظام المحافظة والخطاب الديني المهيمن على الشارع .. وهو ما يعني في النهاية إدخال ذلك الخطاب في دوامة الأنتاج والتدمير .
لكن ما يهمنا هنا هو وجود ذلك الخطاب وقدرته على التواجد عبر هيمنة النظام السياسي على وسائل الإعلام المحلية من جهة واستلابه لخطاب التحرر النسوي والخطابات التقدمية واستغلاله لتلك الخطابات برغم التناقض العنيف الذي يفصل بين تلك التيارات وبين توجهات النظام بحيث أستطاع الاستيلاء على أصوات تلك الفئات والشرائح المعارضة له والتحدث بصوتها وباستخدام عبارتها وأن كان ضمن خطاب سلطوي يؤكد على الجانب الاستبدادي داخل النظام .
ومن هنا نستطيع النفاذ إلي تلك المساحات المتسعة التي تدفع المرأة للمشاركة الفاعلة داخل المجتمع والتي تهدف إلي توسعة حقوقها المدنية والقانونية عبر ترسانة من القوانين لحماية المرأة وحقوقها وأشاعة خطابات المشاركة الاجتماعية وإشراك المرأة للرجل بسوق العمل .. ولكن ومن جانب آخر فإن ذلك الخطاب ونتيجة لكونه خطاباً قمعياً في النهاية فهو يقوم باستلاب كافة تلك المفاهيم وتحويل استعادة الحقوق الأساسية والمساواة بين الجنسين إلي مجموعة من القواعد والقوانين التي يتم إسقاطها على المجتمع من قبل تلك السلطة القمعية وهو ما يجعل من حرية المرأة ما يتعلق بها من مفاهيم وقيم أموراً مرتبطة وإلي حد بعيد - داخل الخطابات النقيضة – بخطاب النظام السياسي ومرتبطة ببقائه وقدرته على الأستمرار ..
ولهذا فإن خطاب السلطة يقدم ليس فقط المخرجة المسرحية بل كل مبدعة على أساس من كونها نتاجاً لذلك الخطاب وتجلياً من تجلياته وهو ما يجعل من مساندة المخرجة المسرحية أمراً مرتبطاً بحماية الخطاب الرسمي – طالما لم تتجاوز الخطوط الحمراء لذلك النظام وخطاباته المتقاطعة مع خطاب حرية المرأة - مثل التعرض للتابوهات الدينية أو السياسية أو حتي الجنسية ..
بالتأكيد إن أي محاولة جادة للتعرض لمشكلات المرأة داخل المجتمع المصري لا يمكن أن تتم دون التعرض لمثل تلك التابوهات الكبري والتي تتنامي وتتداخل وتصبح أشد عنفاً في حال كون القائم على قمة التراتبية الإنتاجية في العرض المسرحي (أنثي) .
وهو ما يصنع أفقاُ ذا طبيعة محددة أمام المخرجة المصرية سواء في تحديد هويتها وعلاقتها بالمجتمع أو عبر تفعيل ذلك الدور من خلال العمل المسرحي المباشر .
كما أنه يمكن لنا أن نستنتج ذلك الوجود المتنامي للتجارب النسائية في مجال الإخراج المسرحي خلال التسعينيات وبداية الألفية في بعض جوانبه على الأقل .
(7)
ربما كان دور الخطاب النهضوي والنسوي إلي جانب الخطابات التقدمية والتحررية في مجموعهم يمكن أن تفسر لنا من جانب أخير تلك المساحات التي تتيحها هذه الأوساط للتجارب النسائية في مجال الإخراج كما يمكن أن تفسر لنا وإلي حد بعيد الارتباط الوثيق بين خطاب تلك الفئات وبين معظم الإنتاج النسائي في مجال المسرح خاصة وأنه هو أكثر الخطابات دعماً وأشدها راديكالية في الدفاع عن المخرجة المسرحية وتحدياً لمفهوم وأدوار أكثر راديكالية بالنسبة لها إلي الحد الذي يحمل بعض العروض أكثر من طاقتها ويحملها من الواجبات ما يعجزها إلي حد بعيد عن أن تتواجد كعروض مسرحية - أيا كان مستواها الفني– داخل الحقل المسرحي العام وبالتالي يدفع بالمبدعة إلي تحمل ضغوطات أكثر عنفاً من تلك التي يتلقاها المخرج الذكر وبالمقابل تحظي بحالة احتفالية ربما تصب في خانة التعامل مع منتجها كحدث فريد وغير متوقع وهو ما يعيدنا من جديد إلي تلك الخطابات التي تشكل مفهوم المخرجة كحدث طارئ ومفارق للواقع يوجب التعامل معها كحدث فارق .. وإن كان هذا التعامل يتم داخل إطار احتفائي وبعيداً عن العدائية التي قد تبدو عليها الخطابات المشار إليها .. وان كانت نتائجه وعباراته لا تختلف أحياناً عن العبارات المستخدمة في تلك الخطابات .
كما يمكن لنا أن نري أحد الجوانب الدافعة لممارسة تلك المهنة التي تحظي بدعم هائل من قبل تلك الخطابات التي لا تكتفي فحسب بتقديم الدعم المعنوي لكنها تقدم المبررات المعقولة لكثير من المواقف واللازمات التي تستشعرها المخرجة كامرأة وتسهم في طرح ذلك الوجود الابداعي وتقديم الأسس التي يستطيع من خلالها بناء ذاته وتحديد خطابه الذاتي
خاتمة مؤقتة
ربما كان من الواضح حالة المرورالسريع على كثير من القضايا التي حاولت تلك الدراسة المبدئية التواصل معها إلي جانب وجود الكثير من الأحكام العامة التي ربما تحتاج إلي المزيد من التوسع في دراستها وعرض مبرراتها
ولكن وبشكل عام يمكننا أن أن نكتشف بعض السمات العامة والشديدة الميوعة في تحديد مفهوم المخرجة المسرحية في مصر وتحديد مجالات عملها
فنحن نجد أن كافة الخطابات التي قمنا بدراستها تقريباً تدفع نحو التعامل مع ذلك الوجود المادي كحدث طارئ على سطح المجتمع وعلى سطح الحركة المسرحية بالضرورة ، وإن كانت تتقاطع هنا العشرات من الخطابات الداعمة والمضادة لهذا الوجود وهي الخطابات ذاتها التي تدفع بهذا الوجود إلي النور قبلما تقوم بعملية خنقه .
أما على المستوي الابداعي فيمكننا أن نري تلك العقبات الكثيرة التي تعترض عمل المخرجة المسرحية وتدفع بها إلي اصطناع علامات تؤكد على إخضاع الجسد الأنثوي للسيطرة الذكورية لما يمتاز به الفن المسرحي من كونه عمل جماعياً واجتماعياً في مستوي من مستوياته إلي جانب وجود تراث طويل خاص بالموضوعات التي يمكن للمرأة الخوض فيها والتي تجعل من الكثير من الموضوعات شائكة وتحتاج إلي قدر من المداورة والألتفاف للتعامل معها .
الصوة المنشورة للزميل والصديق العزيز /أحمد زيدان
المراجع
1- التفسير والتفكيك والأيديولوجيا ودراسات أخري –اأختيار وتقديم : د.نهاد صليحة – نحو نظرية لمسرح المرأة- سوزان أ. بسنيت ماجوير- ت: سناء صليحة – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة- 2000
2- ييجي جروتوفسكي - مسرح جروتوفسكي الفقير- ت: د. هناء عبد الفتاح – الهيئة العامة لقصور الثقافة – سلسلة كتاب الشباب
3- بير بودرير – السلطة الذكورية – ت: أحمد حسان – دار العالم الثالث لنشر – القاهرة – 2001
4- محمد مسعد - المرأة وتوزيع السلطة داخل اللعبة المسرحية – نشرة مهرجان نوادي المسرح الرابع عشر/ الزقازيق – الهيئة العامة لقصور الثقافة
5- د. نصر حامد أبو زيد – المرأة في خطاب الأزمة – نصوص للنشر – القاهرة -1994
ولكن هل يكفي أن نحطم العلاقات بين الخشبة وصالة المتفرجين أو أن نحول الجمهور إلي مشارك بالعرض كي ما نكون أمام عرض تنتجه المرأة – كحد أدني لذلك النمط – بالتأكيد إن ذلك لايرتبط بالمرأة فحسب بقدر ما هو نمط يمكن أن تشترك فيه العديد من التيارات المسرحية والظواهر شبه المسرحية ...
اذا فإن العلاقة بين المؤدين والمتلقين / المشاركين ليست هي المجال الذي يمكننا من خلاله التوصل إلي ما يجمع كافة النساء اللواتي يعملن بمجال الإخراج المسرحي برغم ما قد نصادفه من حالات يمكن لها أن تؤكد ذلك الطرح ...
وهو ما يطرح من الأساس إمكانية إيجاد جماليات مشتركة بين عمليات الإبداع النسائي في مجال المسرح – على الأقل بالنسبة للواقع المصري – وهو ما يصوغ لنا بالتالي من قبيل التساؤل عن المصوغات المنطقية التي تتيح لنا أن نتحدث – وبشجاعة – عن خصوصية مميزة للتجارب النسائية في مجال الإخراج المسرحي بمصر ؟ بل وكيف سنتمكن من اكتساب شرعية التحدث عن مثل تلك الخصوصية المزعومة للتجارب النسائية المبعثرة جغرافياً وزمنياً ، خاصة إذا ما كانت تلك التجارب مفتقدة – في معظمها – لذلك الحس الثوري الذي يحدد ويصنف النسويات عن غيرهن ؟
هل سننطلق من تلك التعبيرات البلاغية الفضفاضة من قبيل" الحساسية الأنثوية في التعامل مع المشهد المسرحي ... إلخ " ؟ أم نرفع راية التميز النوعي والهوية الجنسية كعامل فسيولوجي مُحدد وحاسم – في آن واحد – للتفريق بين ما سنطلق عليه الإبداع النسائي في مقابل الأبداع الذكوري مسلمين – بالتالي – بكل ما قد يترتب على ذلك من اعترافات ضمنية من قبيل التسليم بأن للصفات التشريحية والفروق الجنسية أثراُ واضحاً في تحديد هوية ونوعية العمل الفني ، وهو ما كان ولا يزال المدخل الأيسر لدعاة التفوق النوعي للذكر على الأنثي ... كما يسهل الطعن فيه من خلال أبسط الاختبارات .... ؟!
إن كل تلك الأسئلة السابقة – وعلى الرغم من مشروعيتها البادية – هي أسئلة خادعة وذات طوية سيئة .. كونها تفترض – وبشكل مسبق – وجود نمط ، أو مجموعة من الأنماط ، يمكن حصر وتحديد كافة التجارب النسائية ضمن حدودها دون الأخذ في الاعتبار ما قد يعترض ذلك من تنويعات غير محدودة ، ولذلك وتجنباً للسقوط في حبائل تلك الحلقة المفرغة سنحاول الأنطلاق من أكثر الوقائع المادية بساطة وبروزاً والتي تكشف لنا عن وجود عدد – غير محدد أو مصنف – من الأصوات النسائية - في مجال الاخراج المسرحي - على ساحة الحركة المسرحية في مصر .
لن نحاول –بالتأكيد- حصر أو تصنيف تلك الأصوات داخل نموذج – أو نماذج- حددت ووضعت سلفاً ، بل سنحاول استكشاف تلك الشبكة المعقدة والثرية التي تحدد الاطار – أو الأطر- التي تُكسب ليس فقط الأسئلة السابقة مشروعيتها لدي الكثير منا .. بل وتشكل أيضاً بعض الإجابات الممكنة والتفسيرات المقبولة علي مستوي التحليل والتصنيف .
(2)
بشكل يقبل الطعن فيه بالتأكيد سنقوم باستخدام لفظ " الاصطناع ( أي توزيع الدور في علامات)" ( جروتوفسكي- مسرح جروتوفسكي الفقير- ص 20)(2) ونقوم بعزله عن الإطار الذي وجد داخله عند جروتوفسكي ونقوم بتوسعة صلاحياته لنتمكن من وصف الطريق الذي يستخدمه المخرج/ المخرجة لإنجاز عمله الإبداعي على مستوي تخليق العلاقات فوق خشبة المسرح أو تخليق المشاهد المسرحية داخل الفراغ المسرحي بشكل يمكننا من رؤيتها وقراءتها ..
إن ذلك المدخل سيكشف لنا عن واقع شديد الثراء ، واقع تتم فيه عمليات إنتاج تلك العلامات فوق أرض تجمع عشرات الموضوعات والعلاقات الممكنة التي تتدخل -بل وتشكل – رؤية المخرج / المخرجة .. سواء بوعي منه أم دون وعي ....
وهو ما يجعل من "الاصطناع" ليس فقط تجلياً نهائياً لعشرات الموضوعات والعلاقات الممكنة التي يطرحها النص الدرامي المكتوب سلفاً – أو ورشة العمل الجماعي- بل إنه يجعله أيضاً كاشفاً عن المسارات التي سلكها المخرج/ المخرجة وهو في سبيله لإنجاز عمله الفني .
ويمكن لنا أن نتخذ من مشهد ممارسة السحاق بعرض (كلام في سري) نموذجاً يكشف لنا الكيفية التي يتم من خلالها اصطناع العلامات المشكلة للأدوار المسرحية وذلك من خلال الحضور القوي لفعل السحاق الذي يطرحه النص والذي يقدم عدد غير متناهٍ من الطرق والأساليب التي يمكن لها أن تشكل المشهد ... لكن المخرجة نحت في عملية اصطناعها للعلاقة (الفعل) نحو نفي الفعل ذاته لما يكتنفه من محظورات تصعب من أحتمالية قبوله على خشبة المسرح بكل ما قد يكتنفه من خشونة ... لقد قام العرض باستبدال للفعل الجنسي بمتتالية حركية لا يمكن استجلاء معناها ألا عبر الدخول في عمليات تأويل ...
أي وبمعني أخر لقد وُجد ذلك الموضوع (السحاق) فوق خشبة المسرح عبر نفيه ليس لكونه فعلاً محرماً اجتماعياً ودينياً فحسب بل ولكونه من غير الممكن التعبير عنه إلا عبر نفيه وهو ما لانجده في المشاهد التي تتحدث فيها الشخصيات عن خبراتها الجنسية (الطبيعية) وتقدمها بصرياً من خلال العلاقة مع ذلك الذكر الجالس وسط الجمهور .... بالتأكيد إن تلك العلاقات التي تم التعبير عنها والتصريح بها تمت وسط حالة من الاحتراز لكنها لم تنف بشكل نهائي من الفضاء المسرحي بل تم دمجها داخل التكوين البصري وفتح المساحات الكافية لها لتقدم ذاتها دون الدخول في عمليات تأويل معقدة كتلك التي يستلزمها فعل السحاق ....
قد يبدو أننا لم ننجح حتى الآن في التقدم صوب ما كنا بصدد استكشافه بل وعلى العكس قد يبدو للرائي أننا ندور بحلقة مفرغة .. ففي النهاية ما نقوم بوصفه – حتى الأن- يمكن تطبيقه وكما هو واضح على أي تجربة إخراجية دون الحاجة لتقديم توضيح حول جنس القائم على تلك التجربة .. بل ويمكن الدفع أيضاً بأن ما قيل كان من الممكن أن يطرح دون الحاجة لكل ما تم وبشكل أيسر وأبسط ....
(3)
ولكن حتى يتم استجلاء ما نحن بصدد رصده ربما كنا بحاجة إلي العوده إلي "بورديو" الذي يصف الكيفية التي يتم بها إخضاع الجسد الأنثوي عبر " تعليم النساء على شغل الفراغ .. وعلى المشي وعلى تبني أوضاع جسدية ملائمة "(بير بورديو – السلطة الذكورية –ص48)(3) بشكل يتيح وييسرعمليات السيطرة ويسهم في تشكيل الخطاب الذكوري الذي لا يستطيع اكتساب شرعيته إلا عبر تلك العمليات المعقدة التي تؤكد الخضوع لتلك القواعد التي تبدو هامشية داخل خطابه ...
ومن هنا نعود إلي الاصطناع الذي يتبني تلك الأوضاع الجسدية الملائمة للنساء ويتعامل معها في -الأغلب الأعم- دون تفكير في مصادرها الثقافية أو الفسيولوجية ومن ثم يعيد دمجها داخل العرض المسرحي خاضعاً لذلك الخطاب والذي يطرح نفسه من خلال عمل المخرج عبر تلك التشكيلات الأدائية التي تبدو (كأوضاع/ أفعال) ممكنة ومقبولة أو مرفوضة أو حتى - وكما في المثال السابق- من غير الممكن التعبير عنها (كممارسات جسدية) دون نفيها لما تسببه من خطورة على الخطاب الذكوري الذي لا يمكنه أن يوجد دون قمع أي أمكانية لعلاقات أو أفعال جنسية مثليه ....
وإذاً فإن ذلك العالم الذي يتشكل أمام المتلقي هو في مستوي ما من مستويات التحليل ما هو إلا إعادة إنتاج لذلك الخطاب الذكوري الذي يمتلك من القوة ما يجعله قادراً على اختراق أي فعل مسرحي سواء كخطاب مركزي أو كموضوع ثانوي يمرعبر تلك المساحات والثغرات المفتوحة له دائماً والتي يتيحها الفعل المسرحي كعمل حي يعتمد على الوجود الفعلى للجسد المنتج للعلامات والذي يمكنه تخطي حتى تلك الأفعال القوية التي قد يقدمها النص المسرحي (كصفعة نورا للباب في مسرحية أبسن الأشهر بيت الدمية) ... وليس هذا فحسب بل واستيعاب تلك الأفعال النافية له - والتي ينتجها الخطاب المضاد له - داخله وتحويلها إلي جزء من تكوينه عبر تلك العلاقات التي يتداخل فيها ذلك الفعل مع ما قبله وما بعده من أفعال تدفعه في الأغلب إلي اكتساب صورة مختلفة عن تلك التي صمم من أجلها في النص المسرحي ...
عند هذا الحد نكون قد عبرنا تلك البوابة التي يمكننا من خلالها التفريق بين ما يمكن أن ينتجه التأويل الممكن لأي فعل أدائي فوق خشبة المسرح وبين وجود ذلك الفعل كحدث ناتج عن الإمكانات التي يطرحها الواقع الشديد التعقيد للعناصر والمواضيع المشكلة للعرض المسرحي على المبدع والتي تشكل مادة عمله والتي تتسرب من بين يديه إلي داخل العمل سواء من خلال ما يقوم هو به فعلاً من عمليات بهدف إنتاج العرض المسرحي أو ما قد يصاحبها ويخترقها من أفعال تفسيرية من قبل الممثل/ الممثلة للدور المسرحي أو حتى أفعال عفوية ينتجها الممثل/ الممثلة .... إلي جوار ما قد يتداخل مع هذا من أسلوب في تصميم الملابس المسرحية أو الديكور ... إلخ .
وهو ما سوف يقدم لنا الارضية المناسبة لتفهم الكيفية التي يتم من خلالها اختراق الخطابات الكبري - المسيطرة على المجتمع - للعرض المسرحي وتشكيل الأطر الاساسية لمفهوم المخرجة المسرحية والجماليات التي تنتجها عبر ممارستها المسرحية .
(4)
لنحاول الآن التواصل مع تلك القوي المؤسسة لمفهوم المخرجة المصرية والتي لا تتوقف قيمتها عند مجرد تحديد الدور الاجتماعي - الذي يتم من خلاله ولصالحه تأطير تلك المهنة وتحديد مدي القبول الاجتماعي الذي تحظي به - فحسب بل وتحديد المهام والموضوعات التي يمكن لممارسة تلك المهنة التعامل معها والموضوعات التي تقف كعقبات في طريقها والتي تحجم من نموها كظاهرة ... إلخ .
أو بمعني آخر فنحن سنحاول التواصل مع كافة الموضوعات التي تشكل المخرجة سواء كوجود أو كمنتج لموضوعات فنية وجمالية .
ويمكن على سبيل الحصر وبشكل أولي تحديد تلك القوي من خلال العودة إلي الموسسات الاجتماعية الأكبر والأهم والتي تصنع الأسس التي يمكن من خلالها الدخول إلي ذلك العالم مع ضمان تجنب السقوط في ذلك الركام من الموضوعات التي يمكن لها أن تغمرنا- إلي ما شاء الله- والتي تتنوع بين ما هو عام وبين ما هو شخصي كالظروف الاجتماعية الخاصة بكل مخرجة أو طبيعة العرض .....إلخ
أولاً المؤسسات الدينية : إن المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية تتجه ومنذ أمد بعيد صوب تبني خطاب عدائي تجاه الفن المسرحي ؛ ربما لما ارتبط به المسرح من خطابات تصنفه كفعل معاد للسلطة الدينية وهذا إلي جانب ذلك الخلط الاجتماعي بين ما هو مسرحي وما هو منحل أخلاقياً والذي يستمد تبريراته من الظروف التي صاحبت نشأة ذلك الفن والخطابات الي كانت تصنف الممتهنين له قبل - وبعد - دخول المسرح بشكله الأوربي كعناصر منحرفة اجتماعياً مشكوك في سلوكها ودوافعها وإمكانية قبولها دينياً واجتماعياً ... ولعل هذا ما يمكن له أن يفسر لنا تلك العدائية التي يمكن أن تواجهها المخرجة المسرحية من قبل تلك المؤسسات الدينية التي يتنامي تأثيرها ويزداد خطابها راديكالية يوماً بعد يوم ... خاصة إذ ما أضفنا إلي ذلك الصورة التي يقدم بها الخطاب الديني الرسمي والشعبي المرأة كشريك للشيطان ووجه له في ذات الوقت مما يجعل أي فعل تقوم به فعلاً مشكوكاً في نوياه فما بالنا وهي تقوم على إنتاج الفن المسرحي ...
لكن أكثر تلك الخطابات عدائية ورديكالية هو خطاب تيار الإسلام السلفي الذي طرح نفسه كخيار اجتماعي وسياسي في الفترة التي تلت هزيمة (يونيو 1967) التي دفعت به- كخطاب ديني وطائفي - إلي التفشي البطىء داخل المجتمع قامعاً ومستوعباً في طريقه عدداً من الخطابات التي تشكلت خلال صعود الطبقة الوسطي الصغيرة داخل المجتمع المصري وكذلك الخطابات الدينية التي كانت مطروحة على الساحة الدينية .. أو بمعني آخر لقد استطاع ذلك الخطاب الراديكالي أن يحدث قطيعة مع تلك الخطابات التي كانت تشكل المجتمع المصري وتوجهاته تجاه المرأة بصفة عامة والمرأة المبدعة بشكل خاص لصالح توجهاته التي تحمل -ضمن ما تحمل - رفضاً قاطعاً لإمكانية استيعاب المرأة ككائن مكتمل الأهلية داخل المجتمع وهو ما انعكس داخل المجتمع في رفض لوجود المرأة ككائن اجتماعي يمكن تحديد هويته الفردية ، وهو ما يعني بالضرورة افتقادها لأهلية القيام بأي مهمة قيادية وهو ما قد أسقط بعد تنقيحه وتصفيته من وجهه المتجهم علي الحركة المسرحية " حيث لا تحتل المرأة سواء علي المستوي الإبداعي أو التنظيري سوي هامش شديد الضيق يزداد ضيقاً إذ ما كان هذا المستوي الإبداعي متمثلاً في الإخراج أو التأليف وهي عمليات إبداعية شديدة الهيمنة علي اللعبة المسرحية تمكن القائم عليها من احتلال موقع متقدم داخل التراتبية الهرمية للسلطات المحركة والمشكلة للعملية المسرحية " (محمد مسعد - المرأة وتوزيع السلطة داخل اللعبة المسرحية (4) .
ويكمن لنا ونحن في سبيلنا لكشف وتوسعة تلك المساحة التي نحن بصدد رصدها الإشارة إلي ذلك الوجه الطائفي للخطاب الديني الراديكالي ( كما يري د. نصر حامد أبو زيد في كتابه المرأة في خطاب الأزمة )(5) وهو ما يجعله خطاباً عدائياً وعنيفاً إذ ما اقتضي الأمر ضد كافة القوي التي تمتاز خطاباتها بقدر من الأختلاف وذلك لما تسببه من خطورة على وجوده.
ويمكن لنا أن نلمح أيضاً في ذلك الإطار الخطاب المقاوم والمضاد للخطاب الرسمي للدولة وهو خطاب تشكيكي يستند إلي فقدان النظام للشرعية وطبيعته القمعية في دعم تحويل تلك العبارت التي يستخدمها النظام في تجميل صورته القمعية عبر استيعابها داخل خطاب يدينها ويقدمها كصورة للميل التعسفي للنظام في فرض مشاريعه .. بل إنه يميل في ذلك الإطار إلي استعادة الخطاب الذكوري وعباراته لمقاومة ذلك الخطاب ذي الطبيعة الرسمية والطبقية .
وعند هذا الحد يمكننا أن نري الحدود والملامح التي ترسمها المؤسسات الدينية – في مجملها وبشكل شديد العمومية - لمفهوم المخرجة وطبيعة وجودها كحدث طارئ وغير قابل للاستمرار نتيجة عدم جاهزية المرأة للوجود ككائن اجتماعي متمتع بفردية وشخصية مستقلة من جهة ومن جهة أخري كعنصر مشكوك في قدراته القيادية وما يمكن أن تؤدي إليه قيادتها وهي صورة الشيطان وشريكته . وهو ما يوضح لنا طبيعة الموضوعات التي تتجه إليها المخرجات المصريات اللواتي يشعرن بوطأة ذلك الخطاب القمعي النافي لوجودهن من ناحية والمراقب لكل ما ينتجنه من ناحية أخري بشكل غير مباشر بالطبع . والتي تجىء في صورة تمرد ضد هذه الؤسسات بكل ما تحمل من قيم قامعة لصورة المرأة من جهة و حالة من الخضوع لقيمه التي تتسرب عبر عملهم سواء من غير وعي منهن بها أو في صورة تدخل واع أوغير واع من قبل مجموعة العمل التي تشكل في أحد تجليتها صورة لذلك الخطاب القمعي .
(5)
إن الخطاب الإقتصادي الحاكم للمجتمع يمكنه أن يكشف لنا عن كيفية تشكل مفهوم المخرجة المسرحية بشكل مختلف قليلاً عن ذلك الذي يطرحه الخطاب الديني (أو الذي يتلبس الدين) .. وذلك عبر دراستنا لمجموعة من القضايا التي يطرحها هذا الخطاب الذي يصب هو الآخر في خانة قهر المرأة بصفة عامة ..
أول تلك القضايا هي التغيرات الناتجة عن تحول النظام الاقتصادي - في مصر بذات الفترة التي سبقت الإشارة إليها- من الاقتصاد الموجه (أو شبه الموجه) من قبل الدولة إلي نظام اقتصادي هش ومرتبط بالنظام السياسي إلي حد كبير تتداخل فيه قيم الاقتصاد الرأسمالي مع مجموعة من التحويرات والاضافات التي تصب في صالح تفسخ المنظومة الاقتصادية وعدم إتاحة الفرصة لها كي ما تنمو بعيداً عن جهاز الدولة وهو ما أنتج حالات الفساد الإداري والسياسي التي يشهدها المجتمع حالياً وقادت النظام الأقتصادي إلي شفا الانهيار أكثر من مرة لولا أن الارتباط بين تلك المنظومة السياسية والمنظومة الاقتصادية حالت دون انهيارها حتى الآن ..
وقد أدي تنامي تلك الأزمة إلي زيادة عرض اليد العاملة (النسائية) داخل سوق العمل وهو ما يعكس بشكل ظاهري وجود اختراق للخطاب الديني الذى يرفض إشراك المرأة في أي نشاط اجتماعي أواقتصادي لكنه وحلاً لتلك المعادلة التى تمارس ضغطاً عليه - وعلى قدرته كخطاب - يقوم باطلاق عبارات مثل" أن المرأة لا يجب أن تخرج للعمل إلا للضرورة الاقتصادية " ( د. نصر حامد أبو زيد – المرأة في خطاب الأزمة ص 29)(5) وهو ما يعني أن خروج المرأة للعمل يجب أن يرتبط في المقام الأول بوجود حاجة اقتصادية وليس لتحقيق الذات أو لوجود سوق عمل مفتوح ويقبل بالمساوة بين الرجل والمرأة.. وهو ما يعني بالنسبة لبحثنا عدم وجود رابط قوي أو حقيقي بين المخرجة ومهنتها (الإخراج المسرحي) لكون تلك المهنة لا ترتفع عن مستوي الهواية في معظم الأحيان ، وهو ما يجعل من ممارستها فعلاً زائداً عن حاجة المجتمع وعن حاجة الخطاب الذي يدفع بالمرأة لسوق العمل ويقوم باستغلالها تحت شعار حاجتها الاقتصادية للعمل في مقابل عدم حاجة السوق لوجودها كيد عاملة رخيصة .
إن الأخراج المسرحي إذا هو نشاط زائد عن حاجة المجتمع الاقتصادية بل ومعطل وغير منتج وبالتالي فهو نشاط طارد للنساء من ساحته لكونه غير مرتبط بالحاجة الاقتصادية الملحة ..
ربما يفسر لنا ذلك قصر عمر معظم التجارب النسائية في الإخراج المسرحي وخفوتها السريع أمام خطاب يطرح على المرأة أما التواجد المجزي اقتصادياً أو التفرغ لمهام المنزل والخضوع للخطابات الداعية لعودتها إلي المنزل والاكتفاء بدور الأم أو الزوجة أو حتى الابنة بكل ما في تلك الأدوار من نفي لوجودها ككائن مكتمل الأهلية .
ومن ناحية أخري يفسر لنا غياب معالجة أوضاع العمل بالنسبة للمرأة عن معظم العروض النسائية (التي أمكنني حصرها) حتى تلك التي يبدو فيها وبوضوح التوجه النسوي مثل عرض" كلام في سري " ، " غربة " لليلي سليمان ، أو "رسالة إلي أبي" لنورا أمين ...إلخ
بالطبع سيبدو من المبالغ فيه إصدار أحكام عامة ونهائية حول موقف المخرجات المسرحيات في مصر من قضايا عمل النساء والمشاق الاقتصادية والبدنية التي تواجه كل النساء العاملات .. لكنه يمكن أن يؤشر لنا بالحدود التي يمكن تلمسها في دراسات أخري أكثر اتساعاً تخصصاً بخصوص تلك النقطة ..
لكن لنعد إلي زاوية أخري في مجال الخطاب الاقتصادى الذي يؤسس للمرأة كسلعة يمكن المتاجرة بها وحيازتها وإجراء عمليات بيع رمزي أو مبادلات .... إلخ
هنا نستطيع أن نلمح عنصراً شديد الحيوية والبروز في معظم الدراسات التي تتناول الخطاب الذكوري إنه الشق الاقتصادى في علاقات السيطرة على المرأة والذي يدفع ويشكل الخطاب الذكوري نفسه .. وهو عنصر شديد البروز يمكن أن نجده بدءاً من علاقات الزواج والميراث مروراً بالنقاب وفتيات الإعلانات .. إن تسليع المرأة وتحويلها إلي مادة يمكن امتلاكها ويجب إثبات حيازتها والمحافظة عليها والدفاع عنها أحياناً أو استخدامها كسلعة يمكن طرحها والمتاجرة بها يقدم لنا جانب آخر لمفهوم ودور المخرجة المسرحية التي يصعب وضعها داخل علاقات المتاجرة أو الحيازة - إلا تحت ظروف خاصة جداً – تمثل أزمة في أمام الخطاب الذكوري الذي لا يستطيع التعامل مع المرأة التى تقدم ذاتها ليس ككيان مكتمل الأهلية فحسب بل وكفاعل قيادي داخل عملية إبداعية تستلزم وجود جماعة بشرية تتفق على اختيارها – أو القبول بها – كمركز أو كمرجعية وقيادة فعلية للإنتاج المسرحي .. وهو ما يدفع الخطاب الذكوري عبر حامليه إلي الدخول في صراعات عنيفة بهدف نفي المرأة أو دفعها نحو الخضوع لذلك الخطاب عبر عمليات اصطناع عالمها المسرحي سواء بقبولها له وخضوعها لذلك الخطاب أو عبر تسلل ذلك الخطاب عبر عمليات اصطناع الأدوار المسرحية من قبل الممثلين ... وهو ما يمكن أن يعيدنا إلي " بورديو " من جديد فهناك وداخل العرض المسرحي يعاد إنتاج عملية أخضاع الجسد الأنثوي للسيطرة الذكورية وهو ما يحلحل تلك الأزمة التي يمكن أن يدخل فيها ذلك الخطاب باستيعابه للمخرجة وتحويلها إلي جزء من خطابه ومعبرة عن آليات عمله ..
بالتأكيد إن ذلك لا ينفي وجود تجارب في المسرح المصري لمخرجات قاومن تسلل تلك القيم الذكورية إلي أعمالهن سواء عبر اصطناع علاقات بصرية كاشفة عن ذلك التناقض الكامن داخل تلك الأوضاع الجسدية المرتبطة بالمرأة مثل تحطيم ريم حجاب بعرض "عرض حال" للخطاب الشهواني / التسليعي لجسد المرأة من خلال رقصة البطن عبر إضافة عبارات الخطاب السياسي الرسمي على لسان الممثلة التي تقوم بأداء تلك الرقصة ... وبرغم أن ذلك تم في إطار مختلف كان يهدف وبالمقام الأول إلي فضح ذلك الخطاب السياسي الرسمي لكنه وبالمقابل كان كاشفاً عن الطبيعة السلعية والاستهلاكية لجسد المرأة من خلال رقصة البطن ..
(6)
يقدم الخطاب الرسمي لغة غاية في الانفتاح تجاه المرأة وقضاياها وإن كان ذلك يتم في غالب الأحيان لتحقيق مصالح خاصة بالنظام سواء تعلقت بمحاربة التيار الديني /السياسي وخطابه عبر تخليق خطاب مضاد، أو لاكتساب تأييد فئات وشرائح اجتماعية تحمل وجهة نظر أكثر انفتاحاً تجاه قضايا المرأة، أو لتجميل وجه النظام القمعي عبر تأييد قضايا غير مقلقة سياسياً كما أنها تلاقي مقاومة من قبل أجنحة النظام المحافظة والخطاب الديني المهيمن على الشارع .. وهو ما يعني في النهاية إدخال ذلك الخطاب في دوامة الأنتاج والتدمير .
لكن ما يهمنا هنا هو وجود ذلك الخطاب وقدرته على التواجد عبر هيمنة النظام السياسي على وسائل الإعلام المحلية من جهة واستلابه لخطاب التحرر النسوي والخطابات التقدمية واستغلاله لتلك الخطابات برغم التناقض العنيف الذي يفصل بين تلك التيارات وبين توجهات النظام بحيث أستطاع الاستيلاء على أصوات تلك الفئات والشرائح المعارضة له والتحدث بصوتها وباستخدام عبارتها وأن كان ضمن خطاب سلطوي يؤكد على الجانب الاستبدادي داخل النظام .
ومن هنا نستطيع النفاذ إلي تلك المساحات المتسعة التي تدفع المرأة للمشاركة الفاعلة داخل المجتمع والتي تهدف إلي توسعة حقوقها المدنية والقانونية عبر ترسانة من القوانين لحماية المرأة وحقوقها وأشاعة خطابات المشاركة الاجتماعية وإشراك المرأة للرجل بسوق العمل .. ولكن ومن جانب آخر فإن ذلك الخطاب ونتيجة لكونه خطاباً قمعياً في النهاية فهو يقوم باستلاب كافة تلك المفاهيم وتحويل استعادة الحقوق الأساسية والمساواة بين الجنسين إلي مجموعة من القواعد والقوانين التي يتم إسقاطها على المجتمع من قبل تلك السلطة القمعية وهو ما يجعل من حرية المرأة ما يتعلق بها من مفاهيم وقيم أموراً مرتبطة وإلي حد بعيد - داخل الخطابات النقيضة – بخطاب النظام السياسي ومرتبطة ببقائه وقدرته على الأستمرار ..
ولهذا فإن خطاب السلطة يقدم ليس فقط المخرجة المسرحية بل كل مبدعة على أساس من كونها نتاجاً لذلك الخطاب وتجلياً من تجلياته وهو ما يجعل من مساندة المخرجة المسرحية أمراً مرتبطاً بحماية الخطاب الرسمي – طالما لم تتجاوز الخطوط الحمراء لذلك النظام وخطاباته المتقاطعة مع خطاب حرية المرأة - مثل التعرض للتابوهات الدينية أو السياسية أو حتي الجنسية ..
بالتأكيد إن أي محاولة جادة للتعرض لمشكلات المرأة داخل المجتمع المصري لا يمكن أن تتم دون التعرض لمثل تلك التابوهات الكبري والتي تتنامي وتتداخل وتصبح أشد عنفاً في حال كون القائم على قمة التراتبية الإنتاجية في العرض المسرحي (أنثي) .
وهو ما يصنع أفقاُ ذا طبيعة محددة أمام المخرجة المصرية سواء في تحديد هويتها وعلاقتها بالمجتمع أو عبر تفعيل ذلك الدور من خلال العمل المسرحي المباشر .
كما أنه يمكن لنا أن نستنتج ذلك الوجود المتنامي للتجارب النسائية في مجال الإخراج المسرحي خلال التسعينيات وبداية الألفية في بعض جوانبه على الأقل .
(7)
ربما كان دور الخطاب النهضوي والنسوي إلي جانب الخطابات التقدمية والتحررية في مجموعهم يمكن أن تفسر لنا من جانب أخير تلك المساحات التي تتيحها هذه الأوساط للتجارب النسائية في مجال الإخراج كما يمكن أن تفسر لنا وإلي حد بعيد الارتباط الوثيق بين خطاب تلك الفئات وبين معظم الإنتاج النسائي في مجال المسرح خاصة وأنه هو أكثر الخطابات دعماً وأشدها راديكالية في الدفاع عن المخرجة المسرحية وتحدياً لمفهوم وأدوار أكثر راديكالية بالنسبة لها إلي الحد الذي يحمل بعض العروض أكثر من طاقتها ويحملها من الواجبات ما يعجزها إلي حد بعيد عن أن تتواجد كعروض مسرحية - أيا كان مستواها الفني– داخل الحقل المسرحي العام وبالتالي يدفع بالمبدعة إلي تحمل ضغوطات أكثر عنفاً من تلك التي يتلقاها المخرج الذكر وبالمقابل تحظي بحالة احتفالية ربما تصب في خانة التعامل مع منتجها كحدث فريد وغير متوقع وهو ما يعيدنا من جديد إلي تلك الخطابات التي تشكل مفهوم المخرجة كحدث طارئ ومفارق للواقع يوجب التعامل معها كحدث فارق .. وإن كان هذا التعامل يتم داخل إطار احتفائي وبعيداً عن العدائية التي قد تبدو عليها الخطابات المشار إليها .. وان كانت نتائجه وعباراته لا تختلف أحياناً عن العبارات المستخدمة في تلك الخطابات .
كما يمكن لنا أن نري أحد الجوانب الدافعة لممارسة تلك المهنة التي تحظي بدعم هائل من قبل تلك الخطابات التي لا تكتفي فحسب بتقديم الدعم المعنوي لكنها تقدم المبررات المعقولة لكثير من المواقف واللازمات التي تستشعرها المخرجة كامرأة وتسهم في طرح ذلك الوجود الابداعي وتقديم الأسس التي يستطيع من خلالها بناء ذاته وتحديد خطابه الذاتي
خاتمة مؤقتة
ربما كان من الواضح حالة المرورالسريع على كثير من القضايا التي حاولت تلك الدراسة المبدئية التواصل معها إلي جانب وجود الكثير من الأحكام العامة التي ربما تحتاج إلي المزيد من التوسع في دراستها وعرض مبرراتها
ولكن وبشكل عام يمكننا أن أن نكتشف بعض السمات العامة والشديدة الميوعة في تحديد مفهوم المخرجة المسرحية في مصر وتحديد مجالات عملها
فنحن نجد أن كافة الخطابات التي قمنا بدراستها تقريباً تدفع نحو التعامل مع ذلك الوجود المادي كحدث طارئ على سطح المجتمع وعلى سطح الحركة المسرحية بالضرورة ، وإن كانت تتقاطع هنا العشرات من الخطابات الداعمة والمضادة لهذا الوجود وهي الخطابات ذاتها التي تدفع بهذا الوجود إلي النور قبلما تقوم بعملية خنقه .
أما على المستوي الابداعي فيمكننا أن نري تلك العقبات الكثيرة التي تعترض عمل المخرجة المسرحية وتدفع بها إلي اصطناع علامات تؤكد على إخضاع الجسد الأنثوي للسيطرة الذكورية لما يمتاز به الفن المسرحي من كونه عمل جماعياً واجتماعياً في مستوي من مستوياته إلي جانب وجود تراث طويل خاص بالموضوعات التي يمكن للمرأة الخوض فيها والتي تجعل من الكثير من الموضوعات شائكة وتحتاج إلي قدر من المداورة والألتفاف للتعامل معها .
الصوة المنشورة للزميل والصديق العزيز /أحمد زيدان
المراجع
1- التفسير والتفكيك والأيديولوجيا ودراسات أخري –اأختيار وتقديم : د.نهاد صليحة – نحو نظرية لمسرح المرأة- سوزان أ. بسنيت ماجوير- ت: سناء صليحة – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة- 2000
2- ييجي جروتوفسكي - مسرح جروتوفسكي الفقير- ت: د. هناء عبد الفتاح – الهيئة العامة لقصور الثقافة – سلسلة كتاب الشباب
3- بير بودرير – السلطة الذكورية – ت: أحمد حسان – دار العالم الثالث لنشر – القاهرة – 2001
4- محمد مسعد - المرأة وتوزيع السلطة داخل اللعبة المسرحية – نشرة مهرجان نوادي المسرح الرابع عشر/ الزقازيق – الهيئة العامة لقصور الثقافة
5- د. نصر حامد أبو زيد – المرأة في خطاب الأزمة – نصوص للنشر – القاهرة -1994
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق