ربما كانت الكتابة عن عرض (يا شيخ سلامة) تستدعي تساؤل أساسي يتجاوز العرض ذاته إلى مشروع مسرحة السير الذاتية الذي تتبناه إدارة البيت الفني للفنون الشعبية والاستعراضية منذ عام 2018، والتي أنتج من خلاله مجموعة من العروض التي تتناول السير الذاتية لبليغ حمدي وسيد درويش... الخ. تساؤل يتعلق بإشكالية مسرحة السير الذاتية بما تمثله من تحدي كبير بالنسبة لفن المسرح الذي يميل في العادة إلى تجاوز الحكاية التاريخية نحو تأمل واستكشاف لفلسفة التاريخ كما بحسب أرسطو، فالمسرح ينطلق في العادة صوب العلاقة المباشرة مع اللحظة المشتركة بين العرض والمتلقي وهو ما يحول الحكاية التاريخية بالضرورة لمجرد قاعدة انطلاق للعرض المسرحي وليس لمحور ارتكازه كما تسعى عروض مشروع السيرة الذاتية، ولتحقيق ذلك فإن هناك مهمة أساسية أمام العرض الذي يتناول إعادة إنتاج السيرة الذاتية وهو تحويلها من سردية ذاتية مغلقة - تأمل لخبرات أو تجارب شخصية أو تأمل في مرحلة تاريخية ... الخ- لممارسة مزدوجة تستدعي واقع المتفرج كما تدفع نحو تصفية السيرة الذاتية عبر تخليصها من مركزية الصوت المفرد أو الحكاية الأحادية وذلك عبر تأمل أو مناقشة ذلك الصوت وتفكيكه ضمن سعي العرض للإمساك بالمشترك والمتقاطع بين لحظة عرضه والمروية التاريخية، بالطبع قد ينجح العرض في اجتذاب المتلقي في سيرة ألمظ وعبده الحمولي أو سيد درويش عبر المتعة الجمالية المرتبطة بموسيقي وأغاني تلك الشخصيات الموسيقية ويعمقها عبر ربطها بالمحطات الأساسية لحياة وعلاقات تلك الشخصيات مع واقعها في إطار من النوستالجيا والاستعادة الوثائقية. لكن تلك المتعة لا تتجاوز عمليات الترفيه البسيطة صوب ما هو أعمق في العادة وتتوقف عند ذلك المستوى الأولي.
في
عرض (يا شيخ سلامة) وعلى النقيض ينطلق نص العرض للشاعر والكاتب(يسرى حسان) من
تخليق مستويان زمنيان يجمع بينهما المكان حيث يحتل المنزل الذي ولد فيه سلامة
حجازي المركز الأساسي الذي تنطلق منه دراما العرض من خلال استعراض لعالم وموسيقي مجموعة
من السكان الجدد الذين يتشاركون في إنتاج موسيقي المهرجانات ، قبلما ينقلب عالمهم وعلاقاتهم
مع دخول شخصية الباحثة "غنوة" التي تشاركهم رحلة البحث واستكشاف سيرة
حياة الشيخ سلامة حجازي ليبدأ العرض في التقدم عبر مسارين الأول هو تتبع المحطات
الأساسية في حياة الشيخ سلامة حجازي، والثانية هو التحولات التي تلحق بالمجموعة
المعاصرة وتخلصهم التدريجي من طموحاتهم المرتبطة بالكسب السريع صوب البحث عن أنتاج
فن موسيقي أكثر عمقا.
أن
تلك البنية ربما كان من الممكن أن تفتح المجال أمام مساحة واسعة لرصد التحولات
الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تفصل بين الفن الموسيقي وأنماط الموسيقي
وتحولاتها عبر ذلك اللقاء بين نمطين يفصل بينهما ما يزيد على قرن من الزمن من
نهايات القرن التاسع عشر وحتى اللحظة الراهنة، لكن ذلك الطموح ربما يكون قد أصطدم
بمجموعة من الأزمات التي عرقلت من ذلك الأفق المبدئي الذي يطرحه العرض عبر المباعدة
القصدية بين عالم الشيخ سلامة حجازي وعصره من اعتماد حيث تمدد العرض في تتبع
وثائقي يعتمد بشكل أساسي على تخليق علاقة حية ومباشرة مع الجمهور، بالطبع فإن ذلك
التوجه ربما كان يستدعي بالضرورة تحويل السيرة الذاتية لحياة الشيخ سلامة حجازي لخلفية
وقاعدة لفتح النقاش حول الواقع المشترك كما أشرنا لكن العرض لم يعبر تلك العتبة
الفاصلة بين الوثائقية بوصفها سرد تاريخي والمسرح الوثائقي بوصفه ساحة للجدل
التاريخي والسياسي. وفي سبيل تدعيم ذلك التوجه الوثائقي فإن العرض أعتمد على تقديم
مقطع طولي يمتد من ميلاده وحتى وفاه سلامة حجازي عبر مجموعة من المواقف الدرامية التي
ترصد المحطات والشخصيات الأساسية في السيرة الشخصية مع العديد من الفواصل الغنائية
التي شكلت قاعدة عمليات الإمتاع في العرض فعبر الطبيعة الغنائية والتي ارتبطت
بمجموعة من الأصوات المميزة في مقدمتهم (على الهلباوي) الذي قام - إلى جوار
التلحين والغناء- بأداء شخصية سلامة حجازي. بالطبع فإن الطبيعة الغنائية للعرض هي
من أكثر عناصر بناء العرض تميزا لكن المسافة التبعيدية الوثائقية التي أتخذها
العرض من سلامة حجازي لم تصل إلى النقطة الأكثر جوهرية في سيرته وهي الموسيقي حيث
غابت الموسيقي وأساليب الأداء الموسيقي المميزة لعصر سلامة حجازي (إلا في عمليات
المحاكاة السطحية لها) إلا إذا توقفنا أمام الابتهالات والمشهد الخاص بمنيرة
المهدية التي يتم فيه تقديم أحدى أغانيها.
لكن
لنتوقف أمام مجموعة الهدف الأساسي للعرض وهو المقارنة بين وصورة ومشروع الفنان
الموسيقي دوره الثقافي بوصفه منتمي لثقافة أكثر ارتباطا بمصادرها اللغة العربية،
حفظ القرآن، الموقف الأخلاقي والالتزام الفني... الخ وذلك في مقابل العشوائية
والمادية التي تسيطر على موسيقي المهرجانات وما يصاحبها من انهيار أخلاقي وتحلل من
قيم الالتزام. أن تلك المقارنة التي يعقدها العرض تميل لإدانة عالم الحارة التي
تتمثل موسيقي المهرجانات بوصفها تعبيرا عن وعيها الذي يتشكل عبر الضغوط الاقتصادية
ومغريات الكسب السريع والشهرة السهلة التي تتجسد عبر أداء مراد فكري، نجاة محمد،
حسني عكري، أحمد شومان وباقي المجموعة الذين يمرون بعمليات تحول بعد دخول شخصية
غنوة التي تؤديها نهله خليل، حيث تتم عقد المصالحة مبدئية مع أتجاه العرض للكشف عن
أن الثقافة الشعبية التي تحملها مجموعة الحارة هي أعمق من ذلك السطح المرتبط
بالجسد الأداء المبالغ في حركته والعامية الخشنة ، حيث يظهر تطور في أداء المجموعة
مع عمليات الكشف عن عمق ارتباطهم بتاريخهم الثقافي والفني من جهة والتحولات التي
تنتج عن اقترابهم من ذلك التاريخ. في المقابل فإن مجموعة الأداء المرتبطة بالمستوي
الزمنى الثاني وبشكل خاص (يوسف عبيد، حسام التوني) يقومون بتقديم مجموعة متنوعة من
الشخصيات المتنوعة وأداء كوميدي، أن تلك الثنائية المتعلقة بنمط الأداء بين
الشخصيات الدرامية التي تمر بمراحل تطور درامي في مقابل الأداء النمطي لمجموعة
مختلفة من الشخصيات يؤكد ذلك الميل غير المكتمل للعرض نحو تأكيد أهمية الواقع
الراهن في مقابل الطبيعة الاستعارية للسيرة الشخصية لسلامة حجازي
على
مستوى بناء الفضاء المسرحي قام المخرج محمد الدسوقي والمصمم حمدي عطية بتني خيار تقسيم
قاعة صلاح جاهين طوليا بين مساحة للتلقي ومساحة الأداء الأمر الذي يمكن أن يحيل
إلى أن المخيلة الأساسية لبناء العرض لم تكن مصممة بما يلائم طبيعة القاعات
الصغيرة حيث يظل ذلك الخيار المتطرف في تقسيم مساحات التلقي والأداء داخل القاعات
الصغيرة مغامرة خطرة بسبب تلامس الفضائين من ناحية وتمدد مساحة الأداء، ربما يكون
ذلك الخيار المتطرف مرتبط بمحاولة العرض المحافظة على وجود فاصل فضائي بين المستوي
الزمني الراهن والمستوي التاريخي الخاص بسلامة حجازي.. حيث يقبع يمين المتفرج
المنزل في الوقت الراهن بينما إلي يساره يوجد مجموعة من الأماكن الدرامية المرتبطة
بحياة سلامة حجازي (المقهى، المنزل، المسرح) ، ولتحقيق ذلك لجأ المصمم لمجموعة من
الحلول التقنية التي نجح عبرها في تحقيق أعلى قدر من الاستفادة والتوظيف للمساحات
لفضاء الأداء الطولي والمحدود داخل القاعة، بالطبع يمكن أن تكون عملية بناء الفضاء
وتشكيله تشير لتناقض بين الإمكانيات المهدرة لحالة المسرحة التي يحافظ عليها النص
والمؤدين طوال الوقت في مقابل محاولة تحقيق قدر من الواقعية في بناء الأماكن
المسرحية، لكن في النهاية يظل للعرض خياراته الخاصة التي حاول الحفاظ عليها عبر
عمليات تقسيم الفضاء والحلول التقنية التي لجأ إليها.
في
النهاية وبرغم العديد من الثغرات ومواطن القلق في عرض (يا شيخ سلامة) إلا أن ذلك
الطموح المبدئي الذي شغل العرض في تخطي الوثائقية البسيطة والتتبع المحايد لمحطات
السيرة الذاتية هو أهم ما يمكن التوقف عنده، وهو ما يمكن أن يتم البناء عليه
وتطويره في حال استمرار ذلك المشروع الوثائقي الذي تبناه البيت الفني للفنون
الشعبية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق