الاثنين، مارس 24، 2014

مسرح الشارع فن يناضل ضد السلطة


في فيلم تجاري هش بعنوان "الف بوسة وبوس" (1977)  تحاول فرقة من الهواة الانتقال إلي مصاف الفرق المحترفة عبر استجا  قاعة عرض مسرحي .. ولكن في ليلة الافتتاح (وبمؤامرة من والد البطل الأرستقراطي) يتم فصل الكهرباء عن قاعة العرض .. ولمواجهة غضب الجمهور وفي فورة حماسة الفرقة يقترح البطل على الجمهور الغاضب ان تقدم لهم الفرقة العرض في الشارع .. وبالفعل يوافق الجمهور ولكن ما أن تبدأ الفرقة في تقديم عرضها بالشارع حتى تصل قوة من الشرطة و تلقي القبض عليهم لتقديمهم عرض مسرحي بالشارع دون الحصول على موافقة السلطات لينتهي بهم الحال بقضاء الليلة بالسجن.
ربما كان تاريخ معظم الفرق المسرحية التي اتجهت للشارع لا يختلف كثيراً.. ففي خلال خمسة وعشرون قرناً من الممارسة المسرحية تكررت تلك الحكاية السينمائية بذات تفاصيلها المزعجة ولم تختلف إلا في تفصيل واحد.. حيث تحل السلطة المهيمنة (الكنيسة/ الدولة) محل والد البطل الأرستقراطي بالإضافة لدورها كشرطي.. فمعظم التجارب المسرحية لمسرح الشارع ارتبطت بمغامرات ومطاردات بين فرق مسرح الشارع والسلطة التي تحاول محاصرة ذلك الشكل المسرحي المارق والخطر لما يمثله من اختراق لقواعد الهيمنة على الفضاء العام وللأدوار المعارضة التي لطالما ارتبطت به.
تبدأ الحكايات دائماً إما بطرد لمجموعات من هواة المسرح من المباني المسرحية إلي الشارع وبالتالي يتحولون إلي مواجهة عملية القمع و النفي التي يتعرضون لها بأن يقدمون عروضهم في الشارع.. أو بأن تختار مجموعة مسرحية بوعي الخروج من المعمار المسرحي بكل ما يمثله من سلطات وقوى رقابية و قمعية.
وفي الحالتين يصبح الفنان المسرحي في مواجهة مع السلطات الانضباطية التي تقوم بضبط المجال العام و الحفاظ عليه ليظل خاضعاً للتصورات الثقافية و الدينية و السياسية و الاقتصادية السائدة.
يمكن أن تكون البداية تشبه ذلك الخروج الكبير للمسرحيين نحو الشوارع و الساحات مع بقية الأشكال الأدائية (الحواة ، المهرجين ، لاعبي السيرك .. الخ) وذلك بعدما قامت الكنيسة بمطاردة المسرح بتهمة الكفر و نشر الرذيلة و التقاليد و العبادات الوثنية في القرون الأولي من المسيحية.
في تلك اللحظة الزمنية أضطر المسرحيون للخروج و التجوال في بين المدن و القرى لكسب رزقهم بالأساس .. قبلما يضاف إلي تلك الغاية أمتاع المتفرجين عندما قامت الكنيسة في مرحلة لاحقة بقبول الفن المسرحي وتبنيه داخل الكنيسة.
ويمكننا أن نجد حكايات شبيهه في معظم المؤدين الذين لجئوا للأداء في الشوارع و الساحات و الحدائق العامة .. الخ. ولكن وبرغم ذلك الشد والجذب المستمرين بين السلطات و مؤدي الشارع ظل هناك هامش من الحرية مرتبط بالدور الكرنفالي الذي كانت تقوم به فنون الأداء في العصور الوسطي كما يرصد باختين في كتابه الهام "فرانسوا رابليه والثقافة الشعبية:في العصر الوسيط وإبان عصر النهضة" فالكرنفالية كانت تمثل أحد أهم جوانب تفتيت ثقل النظام الاجتماعي الصارم القائم على تراتبيات غير قابلة للفض أو التحرر منها إلا في ظل الأجواء الكرنفالية القائمة على الأقنعة والتنكر و الرقص و الغناء .. الخ.
ولكن ومع صعود تصدر الطبقة البرجوازية للواقع الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي في أوربا انطلقت حملة ضخمة ضد كافة أشكال الأداء خارج المبني المسرحي و لعل نموذج المعمار المسرحي المطلق عليه البروز الإيطالي (خشبة المسرح التقليدية المرتفعة و المنفصلة عن موقع الجمهور) كانت هي التعبير الأكبر والاهم عن توجهات السلطة البرجوازية ورؤيتها لعلاقة الفن المسرحي بالواقع .. محتجز خلف الحائط الرابع ومنفصل مكانياً بحدود صارمة عن مساحة التلقي.
ولعل ذلك الإصرار على نفي الأجواء المسرحية من الشارع و تأكيد السيطرة على المجال العام و التعامل بقسوة مع الفرق أو الأفراد المنفلتين من سيطرة النظام المسرحي المقبول و المدعوم ثقافياً من قبل الدولة كان يتم عبر سلاسل من القوانين و الخطابات التي تقرن بين مؤدي الشارع و اللصوص و المحتالين .. الخ.
لقد تبنت الطبقة البرجوازية نموذجاً محدداً من المسرح وقامت باعتماده كنموذج نهائي و غير قابل للمناقشة أو إعادة التفكير فيه وبالتالي قامت بنشره بالعالم كله اعتمادا على المركزية الثقافية و الاقتصادية و العسكرية التي توفرت للغرب نتيجة لظروف الاستعمار ..
 ولعل تخلي مصر في زمن الخديوي إسماعيل عن الفنون الأدائية التقليدية - التي كانت تقدم بالميادين والساحات العامة مثل ميدان باب اللوق -  وتبنيها لنموذج المسرح الغربي يمكن أن يرى بشكل افضل في ضوء تلك الإرادة السياسية التي تشكلت في تلك اللحظة لربط مصر بالمركز الغربي عبر بناء مدينة حديثة لها شوارع واسعة ومرصوفة .. ومضاءة بمصابيح الغاز.. وبها دار أوبرا ودار عرض مسرحي.
من هنا أصبح من الطبيعي أن تتحول المناهضة السياسية و الأيديولوجية لهيمنة الطبقة المتوسطة مرتبط بإعادة استعادة الشارع كمان عرض وللتوجه لجمهور أكثر أتساعاً أو غير قادر على تحمل اثمان تذاكر المسرح .. أو حتى جمهور نوعي كالفلاحين أو العمال المنفصلين جغرافياً وثقافياً عن المبني المسرحي.
لقد لجاء فناني المسرح المنتمين للتيار اليساري في الغرب ومنذ عشرينيات القرن العشرين وحتى اليوم إلي مسرح الشارع كوسيلة احتجاجية ضد النظام المسرحي الغربي و ضد جمهور المسرح البرجوازي و بحثاً عن جمهور/ مشاركين أكثر فعالية و في ظل علاقة أكثر حميمية و لتحقيق أهداف راديكالية بالأساس .
ولعل بزوغ الكثير من الفرق مسرحية في ظل تصاعد الاحتجاج على حرب فيتنام في أمريكا بالستينيات نموذج للارتباط بين الاحتجاج والهجوم على الدولة البرجوازية و مسرح الشارع كممارسة مناهضة لهيمنة الدولة على الفضاء الأدائي رقابياً  ومراقبته مالياً
ولعل أشهر الفرق التي قادت تلك العودة الكبيرة لمسرح الشارع منذ الستينيات و حتى الآن  فرقة (الخبز و الدمي/ Bread and Puppet) ذات المرجعية اليسارية وكذلك فرقة (المسرح الحي/ living theatre) ذات المرجعية الأناركية .. حيث نجحت تلك الفرق في بناء أفاق جديدة للمسرح الاحتجاجي المنفلت من اقتصاديات المسرح السائد و نظمه انتاجية كما نجحت في تخليق أنماط جديدة من الأساليب الاحتجاجية المبتكرة و المناهضة للدولة البرجوازية. وإلي جوار ذلك النمو للفرق المعرضة في أمريكا الشمالية نمت في البرازيل تجارب شبيهة مثل تجربة أوجسوا بوال في المسرح المختفي أو مسرح المنتدى.. و التي وفرت تقنيات مختلفة و مغايرة أثرت من تجارب مسرح الشارع وجذبته لمناطق أكثر عمقاً و مناهضتاً للدولة البرجوازية .. فالمسرح المختفي على سبيل المثال يناهض فرضية أساسية للمسرح السائد وجمالياته وهو وجود أتفاق مسبق بين المتفرج و العرض على أن ما يحدث أمامه على خشبة المسرح هو عرض مسرحي وأنه سيتفاعل معه كتجربة فنية ..
إن المسرح المختفي يدمر تلك الفرضية عبر قيام مجموعة الممثلين بالأداء في المواصلات العامة و الساحات..الخ دون تنبيه جمهورهم إلي أنهم يقدمون عرضاً .. بل ويدفعون الركاب أو عابري الطريق للمشاركة في الفرضيات التي يقومون بتخليقها. 
إما على المستوي المصري فإن التجربة لا تختلف كثيراً حيث ارتبطت الكثير من فرق مسرح الشارع بمواقف أيديولوجية مناهضة للنظام السياسي من ناحية و(أو) أزمات عميقة مع النظام المسرحي. 
ولعل عرض آخر الشارع للمؤلف والمخرج السكندري الراحل مؤمن عبده (وهو أحد ضحايا حريق مسرح بني سويف 2005 ) نموذج لذلك الارتباط بين النفي من المبني المسرحي وبين نمو ظاهرة مسرح الشارع حيث يقدم العرض لصرخة احتجاجية من فرقة مسرحية هاوية (تعرضت للطرد الفعلي من احد مسرح هيئة قصور الثقافة) ضد قيادات وزارة الثقافة التي قررت أن تطور تغير من نشاط الموقع .. وكذلك كان حال فرقة السويس لمسرح الشارع التي عانت من مشكلة مشابه وصلت لحد المتابعات الأمنية.
إنها قصة تقليدية تكررت أكثر من مره وفي مواقع مختلفة خلال فترة التسعينيات و العقد الأول من القرن الواحد و العشرين.. فرقة بلا مسرح تواجه خيارات صعبة وتقرر المواجهة عبر الخروج إلي الشارع لتقديم عروضها ثم لا تلبث أن تتعرض لملاحقات أمنية.. وبالتدريج تبدأ الفرقة في تنمية مجموعة من التكتيكات في بناء العرض و الأداء تمكنها من تقديم عروضها مع تقليل المخاطر الأمنية من ناحية و التعبير عن خطابهم المقموع و المحاصر الذي يتحول ببطء من صرخات ضد الإدارات المسرحية طردتهم للشارع إلي خطاب مناهض للسلطات القمعية بالشارع والمدنية و الوطن .
إن ذلك التفسير لظاهرة نمو مسرح الشارع في مصر وطبيعة عروضه الراديكالية ربما يبدو شديد التسطيح والمحاصرة لتلك الظاهرة المتنامية التي نجحت في أن تتحول إلي أحد المحاور الفرعية ضمن أول مؤتمر للمسرحيين المصرين بعد الثورة (مايو 2013).. وكذلك عقد أكثر من ملتقي ومهرجان مخصص لها خلال السنوات الثلاثة الماضية في خضم الأحداث السريعة و العنيفة التي تعصف بالمجتمع المصري .. بل ووصل الأمر إلي أن يستحدث البيت الفني للمسرح (البيت الفني للمسرح) فرقة مسرحية جديدة باسم (فرقة مسرح الساحة) تهتم بتقديم عروض مسرح الشارع والأماكن المفتوحة.
إن تلك الظاهرة ربما اكتسبت جزء من زخمها و عنفوانها من تلاقيها مع نمو الحركات الاحتجاجية خلال النصف الثاني من عقد الألفية حيث امتزجت فيه الكثير من تلك الفرق مع الحركات الاحتجاجية و التنظيمات التي سعت إلي الاستفادة من الإمكانات التي يقدمها مسرح الشارع لتوصيل رسالتهم الاحتجاجية إلي أكبر عدد ممكن من المواطنين كما فعلت (حركة كفاية) عندما اهتمت بشكل واضح بإنشاء فرقة مسرحية تعبر عن توجهاتها المناهضة للنظام السياسي .
كذلك فإن نمو الإعتصامات والتظاهرات المناهضة للحكم الديكتاتوري لحسني مبارك خلال الفترة الممتدة من (2005/2010) ساهم بشكل كبير في نمو أشكال أدائية ذات طابع احتجاجي وكان مسرح الشارع في مصر من أكبر المستفيدين من ذلك النمو والتوسع للمظاهر الأدائية الراديكالية الذي بلغ مداه مع ثورة 25 يناير التي مثلت بوتقة لجمع كافة تلك المظاهر الاحتجاجية في إطار واسع و ممتد بل ومثالي .
إن تلك السردية التاريخية الطويلة ربما توفر لنا قاعدة مناسبة لتفهم و تحليل واقع مسرح الشارع في مصر وطبيعته كفن أدائي راديكالي الطابع..
ولعل أول ما يمكننا لمسه من تقنيات متشابهة بعروض مسرح الشارع هو اللجوء الدائم للغناء و الرقص و تفتت وتراجع الطابع الدرامي للعروض في مقابل نمو حالة كرنفالية تنطلق من إطار جذري في رفضها للسلطة القمعية  عبر استخدام الغناء ،والرقص ،والحوار مع المتفرجين ، والحكى ، والمشاهد القصيرة غير المرتبطة بإطار درامي تقليدي ، بل ويصل الأمر إلي أن يفيض العرض (في بعض من الأحيان) عن الحدود التي وضعها الممثلين ليتحول إلي اشتباك واقعي بين ممثلي الرقابة الاجتماعية وأخلاقية المدافعة عن السلطة السياسية أو السلطة الدينة أو السلطة الأبوية بشكل اعم وبين متفرجين (في الغالب من الشباب) ينتمون لذات التوجه الراديكالي الذي يحمله العرض.
إن تلك الخيارات الأدائية التي يلجا إليها مسرح الشارع ذات أثر عميق وحاد في اوساط مجتمع محافظ تهيمن عليه أفكار دينية تنظر للفنون الأدائية بقدر كبير من الشكل والتوجس وتميل إلي نفيها عبر فتاوى التحريم  و(أو) عبر التحريض الأخلاقي.
إن تلك التحديات التي لا يختبرها المسرح الغربي بشكل عام يجعل من حضور مسرح الشارع في الطرقات و الساحات تحطيم و تحدياً لكثير من الأفكار المحافظة والتقليدية التي تسيطر على الواقع المصري وليس فحسب نقض للدولة البرجوازية .. هذا بالإضافة لما يمثله من اختراق لهيمنة السلطة السياسية على الواقع (سواء قبل الثورة أو بعدها) حيث لم يزل النظام الحاكم المتغلغل في مؤسسات الدولة و المحافظ الطابع يتصارع على الهيمنة مع الإسلام السياسي الذي لا يقدم سوى بديل أكثر محافظة.
ولكن ورغم كل ذلك أستطاع مسرح الشارع خلال السنوات السابقة على الثورة و التي تلتها ان يحقق أكبر قدر من التوسعة لتقنياته عبر الاستفادة من تجاربه الخاصة بمبدعيه و التي قادتهم نحو إعادة استلهام التقنيات الاحتفالية التي تميز الفنون الأدائية التقليدية في مصر من ناحية كما استفادوا من التجارب العالمية وعلى وجه التحديد تجربة (أوجستو بوال) من ناحية أخرى ..
لقد أصبح مسرح الشارع المصري بالتدريج أكثر راديكالية وتحدياً في خطابه وأدواته لكنه ومن جانب أخر أصبح هدفاً أكثر أهمية لعمليات الاستيعاب والتحديد التي تمارس ضده طوال الوقت.
ولعل ذلك الاهتمام المتصاعد بدعم فرقه وإقامة الملتقيات والمهرجانات المسرحية لهم يعكس وجود شعور متصاعد بالطبيعة المقاتلة لذلك المسرح.. ولعل ذلك الاهتمام يصل إلي حده الأقصى في المطالب التي قدمها مجموعة من المسرحيين العاملين بمسرح الشارع ضمن (المؤتمر القومي للمسرح المصري مايو/ 2013) حيث تركزت مطالبهم على توفير الدعم المالي من قبل الدولة "وتحويل فرق مسرح الشارع التابعة للهيئة العامة لقصور الثقافة على مستوي الجمهورية بشكل رسمي إلي فرق ثابتة طوال العام "
ولعل ذلك هو ما يحدث على مستوي فرق مسرح الشارع المستقلة حيث طالبت الفرق المستقلة بدورها بدعم الدولة .. ليتحول الأمر في النهاية إلي محاولة تحقيق عملية استيعاب متبادل بين الفرق والدولة التي تمتلك غالبية دور العرض و تحتل الصدارة في عمليات الإنتاج المسرحي بعد تآكل مسرح القطاع الخاص ومحدودية الدعم المقدم من قبل الجهات الغربية المانحة التي تمتلك بدورها شروطها الخاصة التي تهدف لتحقيق عمليات استيعاب بدورها لمثل تلك التجارب.

إن ذلك النجاح و الانتشار السريع لتجربة مسرح الشارع في مصر و التي أنتجت خلال سنوات قليلة فرق مميزة في ذلك المجال مثل فرقة حالة أو فرقة السويس أصبحت محاصرة بذلك النمو المتزايد للقوى المحافظة واليمينية بالمجتمع.. كما أنها أصبحت محاصر بسبب عدم وجود خلفيات أيديولوجية تحكم عمل معظم تلك الفرق التي ظلت في المجمل تدور في فلك معارضة الطبقة الوسطي للنظام السابق الذي أسهم في تآكلها و تراجعها.. وبالتالي فعند أول بادرة بإمكانية إعادة الاستيعاب من قبل الدولة أسرعت معظم تلك الفرق بالبحث عن موقع لها داخل خرائط عمل المؤسسات الثقافية التابعة للدولة.

هناك تعليقان (2):

Egyptian يقول...

أحسنت يا مولانا :)

محمد مسعد يقول...

ربنا يخليك يا صديق...

في انتظار العائلة ... ثنائية البراءة والذنب

  منذ الوهلة الأولى، يتجلى عرض في انتظار العائلة بوصفه دراما تعبيرية تدور في فلك العالم الداخلي لمحامٍ يسعى للموت في أجواء كابوسية، حيث تطال...