منذ
سنوات عديدة أخبرني أحدهم أن هناك فارق دقيق بين مصطلحات (السبوبة – النحتيه -
المرمه) .. وأعتقد أنه قد حان الوقت لنقل تلك المعرفة و نشرها بعدما تخلت بعض
القيادات الثقافية عن قاموسها الاصطلاحي و استبدلته بذلك القاموس للتعبير عن
رؤيتها لواقع الحركة المسرحية و العلاقات الإنتاجية التي تقوم على أساسها الأدوار
التنموية للهيئة العامة لقصور الثقافة.
النحتيه
: هي مهمة عمل سريعة .. يتم انجازها في زمن قصير وهي غير قابلة لتكرار بشكل له
طابع الديمومة أو الاستقرار وهي تعطي عائد مادي سريع
المرمة: هي مهمة عمل كبيرة وتحتاج في إنجازها
لفترة زمنية طويلة نسبياً كما أنها لا تتسم بطابع التكرارية .. ولها عائد مادي
مقبول و مجزي.
ونصل
إلي السبوبة : هي مهمة عمل لها طابع الاستقرار و الدوام بشكل نسبي فهي ذات طابع موسمي أو شهري .. الخ وتعطي عائد
مادي مستقر إلي حد ما .
لكن
ما يمنع عن تلك المهام سمة الاستقرار الدائم و العاد المادي المستقر هو كونها قد
تم ابتكارها في أوساط العمالة اليومية و بعض الأوساط المهنية المنخفضة العائد ..
وكما هو معروف فإن تلك الأوساط (العمالية) تتسم بطبيعة الأعمال الحرة التي لا تمتلك نمط من الأجور المستقرة أو العائد المادي المحدد سلفاً أو المتنامي الذي تتميز به فئات أخرى مثل
التكنوقراط أو الفلاحين .
بالتأكيد
قد يثار هنا موضوع كيفية تسرب تلك الكلمات إلي القاموس اللغوي البرجوازي بشكل عام..
والإجابة ربما تكمن في التحول الاقتصادي نحو سياسات الاقتصاد الرأسمالي والسوق
الحرة منذ منتصف السبعينيات والتي أعطت الهيمنة لفئات طبقية ذات طابع طفيلي تقوم
على ترويج السلع الاستهلاكية و تقديم الخدمات (أصلاح السيارات، السباكة ،
المقاولات ، السمسرة ... الخ) وكافة تلك الأشكال من الاقتصاد لا تتسم بالاستقرار أو النمو .. بل هي تظل دائماً
اقتصاديات وسيطة بين الرأسمالية الغربية المستقرة و المتنامية والمستهلك..
وبالتالي فهي خاضعة لتقلبات و تحولات السوق العالمية و التطورات التكنولوجية.
وبالتالي
فإن تغلغل تلك المصطلحات إلي خطاب قيادة ثقافية كبيرة مثل رئيس الهيئة العامة لقصور
الثقافة أو خطاب وزير الثقافة أو حتى خطاب قوي اليمين الديني أو بعض النخب
الثقافية المركزية الطابع.. يؤشر بشكل واضح على طبيعة تفهم تلك القوي للعمل
الثقافي و موقفها منه- فحتى لو استخدمت
تلك القوي مصطلح (سبوبة) بشكل سلبي لوصف واقع الحركة المسرحية وكيف تدهور و أنحدر
ليتحول لعمليات تربح لا تهتم بوجود أهدف تنموية ثقافية الطابع أو حتى بتطوير المهنة و تحقيق حالة
نمو دائم و مستمر لها – فإن تلك القوي لم تهتم
بكشف تلك الأزمة أو طرحها للنقاش العام كما لم تبدي أي اهتمام بمهاجمة مثل
تلك الأفكار من خلال خطة عمل ترسخ للعمل الثقافي و تؤكد على ديمومته لتحقيق أهداف
تنموية .. بل أكتفت بالهجوم على الحركة المسرحية باستخدام خطاب طفيلي يؤكد على
رؤيتها المحتقرة للواقع المسرحي و الثقافي بشكل عام . احتقار لا ينتج سوي ذاته ولا
يرسخ سوي لمزيد من الانحدار والتراجع والخفة.. ومزيد من التغلغل لخطاب يرسخ لسلطة
القوي التي أنتجت السبوبة لتأكيد واقع ممارستها الاقتصادية والترسيخ له عبر
الخطاب... أنهم يدافعون عن ذلك الخطاب..
لننتقل
الآن لنقطة تالية وهي الإجابة على سؤال منطقي و طبيعي يمكن أن يثار وهو ما هي
البدائل الممكنة التي يمكن طرحها لمواجهة ذلك الخطاب وتدميره وكشفه وقبل كل ذلك
دفع الحركة المسرحية وترسيخها ؟
لمعالجة
تلك المشكلة ربما كان من الطبيعي العودة من جديد لخطاب الاحتقار الامني الذي يستخدم
حالياً ولكننا سنقوم هنا للضرورة برفع مستوي اللغة بعض الشيء.
"
أن المسرحيين مجموعة من الطفيليين الفاسدين الذين يقومون باستخدام المسرح للتربح
السريع دون الاهتمام بالمهام الثقافية التنموية التي يقوم عليها مشروع الهيئة في
المجتمعات المحلية بالمحافظات ، ويجب مواجهة
تلك المجموعة من المفسدين و الطفيليين عبر زيادة القيود وفرض مزيد من
القواعد وتشديد المراقبة وسحب التمويل أو تخفيضه في الحد الأقصى "
أنه
خطاب هجومي له طابع أمني و سلطوي.. ولكن لندع ذلك التحليل و لنحاول أن نكتشف
المشكلة الحقيقية في ذلك الخطاب.
أن
المشكلة الحقيقية تكمن في أن هناك سلطة ممتلكة للمنع و المنح و تحاول ضبط إيقاع العمل
و تحقيق أقل قدر من الخروج عن القواعد التي رسمتها لنفسها... والتي تري أنها تتفق
مع مشروعها الأساسي.
ولكن
تلك السلطة تتجاهل (بدون وعي بالتأكيد) أن مركز الأزمة ليس في وجود فساد في حد
ذاته بل في محاصرة الاسباب الدافعة لأتساع رقعته .. فالفساد أشبه بمرض السرطان
الذي يقوم بالتضخم نتيجة تداعي النظام أو
عدم قدرته على تحقيق المرونة الكافية للتعاطي مع المتغيرات.. وهنا يحدث الفساد.
فإذا
كان المسرحيين قد فسد بعضها أو كلهم (كما ترى السلطة) فإن اسباب انتشار الفساد لا
تعود إلي أنهم أشخاص فاسدين أو عديمة الأخلاق كما تطرح الإدارة وإلا لكان الحل
أبلاغ الشرطة عن اللصوص ، وإعادة تأهيلهم في السجون .. وبالتأكيد إغلاق المسرح
ذاته لأنه جاذب لتلك العناصر الفاسدة.
انتشار
الفساد (لو كان على هذا القدر من الانتشار) إما انه عائد لتداعي النظام داخل هيئة
قصور الثقافة وبالتالي شيوع الفساد الإداري والمالي.. وهو ما لن يتم معالجته بمزيد
من الصرامة فحسب بل عبر دراسة مواضع التداعي ووضع خطط لتفكيك تلك المواضع
المتداعية وإعادة تشكيلها لتقوم بدورها داخل المنظومة ولتحقق الدور المطلوب منها
ضمن المشروع الثقافي... لماذا لا تفكر الهيئة في تطوير مواقعها الثقافية وتعديل
لوائحها وقواعدها المالية على سبيل المثال لا الحصر.
السبب الأخر لانتشار الفساد كما أشرنا هو عدم
وجود مرونة كافية للتعاطي مع المتغيرات التي تفرض مجموعة من الحتميات على المنظومة
حتى تستمر في أداء عملها.. وكما يبدو فإن الهئية لا تمتلك تلك المرونة الكافية
للتعاطي مع المسرح .. فالهيئة تحاول تحقيق المرونة مع العمل المسرحي بذات الأساليب
التي تتعامل بها مع النشر على سبيل المثال.. متغاضية عن أن العمل المسرحي يحتاج
ليحقق الأهداف المرجوة منه قدر من التفهم لطبيعته كعملية اجتماعية وفنية قائمة على
عمل جماعي متعدد التخصصات في حاجة لتطوير لوائحه المالية تبعاً للتضخم أو
المتغيرات الخاصة بكل محافظة. حتى لا يحدث الفساد.. أو يبقي في حدوده الطبيعية
والمقبولة التي يمكن محاصرتها بالصرامة الأخلاقية و الأمنية .
احترموا
المسرح .. طوروا لوائحكم المالية والقانونية .. تخلصوا من خطابكم الطفيلي .. أبحثوا
بطرق ابتكاريه عن كيفية الوصول للمتلقي المستهدف الذي تحاصره الظروف الاقتصادية أو
الخطابات الدينية أو الثقافية وتمنعه من ترف الذهاب للمسرح. تخلصوا من أفكاركم
الأمنية وخوفكم التاريخي.
وإن
لم تتمكنوا فاحترموا السبوبة فإنها ما
يحافظ على استمرار المسرح بشكل مؤقت إلي أن يأتي من يمتلك خطة وآليات كافية
للتعامل مع الظاهرة الثقافية.
هناك 3 تعليقات:
شكرآ لجهدكم الدؤب من اجل مسرح الثقافة الجماهيرية وحلحلة مشاكلة
إرسال تعليق