الأربعاء، مايو 12، 2010

دون كيشوت ... عرض أخلاقي بقلب رومانسي


لا يوجد مسرح بلا صراع .... مقولة قديمة قدم ظاهرة المسرح .. بل يمكن أن نقول أنها أعتق من المسرح ذاته فلقد خلقت مع المحاكاة .. المحاكاة التي أنجبت المسرح والسرد والفن التشكيلي .. بل والموسيقي .. فبلا صراع لا نري سوي مسخ دميم للعالم .. والمحاكاة ترغب دائماً في التماهي مع الأصل.. بل والتفوق عليه ...

هكذا تحدث أرسطو وأفلاطون بل وهيجل ذاته الذي تحدث عن الجدل بين القضية وسلبها (أو نقيضها) في إطار حديثه عن حركة التاريخ ..

أن العالم بلا صراع غير ممكن .. وبالتالي فمن غير الممكن الحديث عن مسرح بلا صراع .. حتى لو تحدثنا عن مسرح حداثي أو ما بعد حداثي .. قد يختلف مفهوم الصراع باختلاف أطرافه أو مستوياته .. ولكن يظل هناك دائماً صراع بين أطراف ما ومحاكاة لشيء ما (حتى لو تحدثنا من داخل نظرية التعبير .. ) .

ولكن وحتى لا نبتعد .. يمكننا أن نتحدث عن أن الفيصل دائماً بالنسبة لقوة الصراع وقدرته بالتالي على نقل العالم.. هو مستويات الصراع التي يمكن أن يقدمها لنا العرض المسرحي .

 

دون كيشوت ضد البطل

يمكن لتلك المقدمة التاريخية أن تقدم لنا مدخل ملائم لعرض دون كيشوت (للمخرج سامح الحضري) .. ذلك أن العرض يقوم على صراع بين شخصية دون كيشوت(عادل عنتر) والبطل(أحمد جابر) .. صراع يتأكد في كافة ملامح العرض بداية من التقسيم اللوني بين الأبيض والأسود على مستوي الملابس.. ومروراً بالتصادم الأخلاقي بين دون كيشوت والبطل (حول الانحناء والتوازنات والشجرة والله والحقيقية و المسرح .. الخ) ونهاية بالأفق الأخير للصراع الذي يؤشر عليه العرض والذي يتأرجح بين الصراع الطبقي بين (فرقة راكبي البغال) و(البطل /الجمهور/ الناس /البغال..الخ) صراع بين من يستغلون ومن يستغلون ... وعلى ذات المستوي صراع أخلاقي بين الخير والشر .. ليصل ذلك التأرجح في النهاية لما يمكن أن نطلق عليه إصباغ الصراع الطبقي بمسحة أخلاقية تتمثل في النهاية في صورة استمرار الصراع بشكل أبدي بين البطل ودون كيشوت من خلال تدخل المؤلف (إبراهيم حسن) .

بالتأكيد هناك مستويات أخري وعلاقات فرعية (أو أصلية)أخري تبعثر طيلة الوقت ظلال لعلاقات السلطة ومحاولة لكشف آليات عملها أو لطرح نماذج توضيحية عن الصراع أو حتى لتخليق مرادف للبطل (وهو ما يتحقق من خلال شخصية الملقن / شريف الدسوقي ) الذي يطرحه العرض من خلال اللون البني هو والغانية (دينا فضالي) .. الخ .

ولكن وفي النهاية يظل ذلك الصراع بين(البطل/ دون كيشوت) هو المركز الحقيقي للعالم الدرامي للنص المأخوذ عن نص دون كيشوت للكاتب الأسباني (بويرو بايخو) .

ولعل ذلك التبسيط الذي نسعى إليه هنا يمكن له أن يقودنا صوب استكشاف طبيعة الأزمة التي يحاول عرض دون كيشوت أن يقدمها لنا .. ولذلك يمكن لنا العودة للصراع الأساسي بين دون كيشوت والبطل على احتلال مركز العالم/المسرح  وهو ما يتأكد منذ البداية من خلال مشهد تحية الجمهور الذي يتم فيه لفظ (الممثل/دون كيشوت) ونفيه من المسرح ويتأكد من خلال تدخل المخرج (محمود ندى) ومن خلفه المؤسسة الثقافية التي تهب البطل كافة الجوائز وقبل كل ذلك تأمر المؤلف لصالح تصفية وجود شخصية (دون كيشوت) لفتح المجال أمام (البطل) ليحتل مركز العالم (المسرح) .. وبالتأكيد فإن ذلك الصراع وكما يمكن لنا أن نراه هنا يصل في النهاية لحالة من توازن القوي بين المجموعتين ( مجموعة البطل / مجموعة دون كيشوت) .

أننا إذا أمام صراع ذو طبيعة أخلاقية .. وهو ما يمكن لنا أن نري أثره بوضوح على كافة سمات العرض .. لقد أختار العرض نموذج أخلاقي وقرر أن يتبناه .... وذلك هو خياره .

النصوص... النصوص

 منذ البداية بل ومن خلال عنوان العرض ذاته يمكننا أن نري عملية استحضار لنصوص عديدة لتسهم في تشكيل العالم الدرامي للعرض ( فنجد حضور شخصية دون كيشوت / أو كيخوته) لسرفنتس .. بما تحمل تلك الشخصية من ميراث في مخيلة مستوي معين من الجمهور.. (بما يؤشر هنا على الجمهور الافتراضي للعرض وإن كانت تلك قضية أخري) ...

أن حضور نموذج دون كيشوت في العرض يأتي حاملاً للقيم التي يمثلها تلك الشخصية في النص الأصلي والذي فيه تفقدت قدرتها على الاتصال من الزمن وتصبحت عالقة في لحظة زمنية غير واقعية وهو ما يؤدي بها لتخليق عالم بديل للعالم الواقعي والتقوقع داخله .. ولكن العرض سريعاً ما يفلت منه ذلك النموذج تحت ضغط الصراع الأخلاقي الذي ينطلق ومنذ  بداية العرض من خلال عملية استحضار مقطع من قصيدة لنجيب سرور تؤكد على ذلك الانفصال الذي تعاني منه شخصية دون كيشوت من ناحية  وتضيف إليه بعداً أخلاقياً يظل مستمراً لباقي العرض بعكس نموذج دون كيشوت الذي يتآكل بالتدريج وعبر العرض ليتحول لنماذج أخري من خلال نموذج(سبارتكوس المهزوم)  و(أبو النواس) من أشعار أمل دنقل ورغم عدم تصريح العرض بتلك النماذج لكنه يؤكد تحول الشخصية من خلال إشاعة ذلك من خلال استخدام الشخصية لضمير المتكلم الموجودة في مقاطع تلك النصوص .. وكذلك للإشارة التي يقوم بها باقي أفراد عالم العرض إليه .

بل يصل الأمر في نهاية العرض ومع التحام دون كيشوت مع الخطاب الذي يطرحه الملقن والحبيبة (منة الله سعيد) إلي ثوري ونموذج لنبي اجتماعي يقود ثورة البغال (كما يطلق عليهم العرض) .

أن النصوص تحضر دائما وتتناقض فوق خشبة المسرح بل وتقود المراحل المختلفة من الصراع .. بل أنها تضفي من طبيعتها الغنائية على العرض لتحوله لما يقترب من أنشودة رومانسية وأخلاقية تتحدث عن الصراع بين الخير والشر (في مستوي ما من مستويات العرض) .

 

المجموعة ..            

يمكن أن نجد في العرض الكثير من الملامح التعبيرية .. فهناك (دون كيشوت) الفرد الذي يواجه مجموعة متناغمة ومتحدة تواجهه وتقمعه وتحد من حرية طيلة الوقت .. بل وتحاصره في أعلي المسرح في معظم أجزاء العرض ..وفي النهاية تطرده من خشبة المسرح .

ولكن العرض ينزع عن تلك المجموعة ذلك التميز الذي يمكن حصرها من خلال تحويلها إلي مادة متاحة يمكن تشكيلها من قبل أي قوي موجودة على خشبة المسرح فهي تتحول لجزء من البطل وخطابه في لحظات سيطرته والعكس صحيح ... أنها مادة خام بلا هوية وبلا وجود منفصل فوق خشبة المسرح ..  وهو ما يجعلها في النهاية تنقسم بين البطل ودود كيشوت ..

أن تلك الهوية المائعة للمجموعة يمكن أن يقودنا للتفكير – ومن زاوية أخري- في كيفية تشكيل العالم داخل العرض فنحن نجد مجموعة مميزة من خلال الملابس (الأسود/ البطل) تفقد هويتها باستمرار وتفقد انتمائها .. وفي المقابل لا تفقد أبداً حضورها على خشبة المسرح.. فالمجموعة وعبر التشكيلات الحركية التي صممها (محمد ميزو) تحتل مساحة الأداء وتهيمن عليه تماماً مثل اللون البني (لون الشجرة .. وهو تأويل ممكن) الذي يميز الديكور المسرحي .. في حين أن الشجرة ذاتها في حال تغييب ويتم تبادلها بين طرفي الصراع .

أن العرض الذي كنا نحاول ومنذ قليل أن نتلمس فيه أطياف صراع طبقي .. يحمل في داخله هو الأخر نظرة طبقية للعالم .. أنه ينطلق من وجهة نظر المثقف المتعالي على الواقع الذي يخوض معركة أخلاقية ضد الفساد الأخلاقي والمؤسسي الذي سيود العالم ... وهنا نقطة الالتقاء الوحيدة الممكنة بين نموذج فارس العصور الوسطي النبيل دون كيشوت ودون كيشوت العرض.

في النهاية يمكن لنا أن نتحدث عن عرض أشكالي يحاول تشكيل وجهة نظر في العالم .. حتى ولو على المستوي الأخلاقي .. وهو القيمة الحقيقية للمسرح فهو يري العالم ويحاول اتخاذ موقف منه ودفع متفرجة لاتخاذه وذلك من خلال العناصر الفنية التي يصعب الإشارة إليها هنا في هذا المقال لضيق المساحة برغم مهارتها الأدائية بشكل عام .

هناك تعليقان (2):

sameh osman يقول...

تحياتي يا صديقي.....ولكن كأنني لم اكن موجودا...وانا الذي كتبت النص من الالف للياء.....لمدة عام ونصف اكتبه

sameh osman يقول...

تحياتي يا صديقي.....ولكن كأنني لم اكن موجودا...وانا الذي كتبت النص من الالف للياء.....لمدة عام ونصف اكتبه

في انتظار العائلة ... ثنائية البراءة والذنب

  منذ الوهلة الأولى، يتجلى عرض في انتظار العائلة بوصفه دراما تعبيرية تدور في فلك العالم الداخلي لمحامٍ يسعى للموت في أجواء كابوسية، حيث تطال...