* نشرت تلك المقال ضمن نشرة المهرجان الأكاديمي الثالث الذي أقامه المعهد العالي للفنون المسرحية بدولة الكويت في الفترة الممتدة من 27 مارس 2013 إلي السادس من أبريل 2013 .. وقد نشرت المقال بالعدد العاشر
في العادة ما تهب المسابقات و
الملتقيات المسرحية المتلقين و المهتمين بفن المسرح صورة لواقع الحراك المسرحي وطبيعة
التوجهات والأفكار التي تشغل بال مسرحين ينتمون لدول مختلفة ،وحاملين لمعطيات
ثقافية و سياسية متنوعة ، لكنهم ورغم كل ذلك
تجمعهم مجموعة من الأفكار والقواعد ذات الطبيعة الانتقائية التي تحددها
طبيعة كل ملتقي أو مسابقة .
فبرغم اختلاف المنطلقات والخلفيات الثقافية
التي أتت منها كل فرقة فإن المهرجان الأكاديمي الثالث – وكما يدل أسمه - تمثل جزء واقع المستوي الفني لدارسي المسرح في
اللحظة الراهنة ، كما أن كل عرض يقدم لجماع الأفكار التي تشغل بال شباب الدارسين
للمسرح و توجهاتهم الفنية ، وأخيراً تكشف عن القضايا التي تشغل العقل العربي بشكل
عام و الإقليمي الخاص بكل دولة على حدا .. مما يمكن أن يعطي للمهتم و الدارس
تصوراً مبدئياً لواقع الدراسة الأكاديمية لفن المسرح في الأقطار العربية بشكل عام
و لطبيعة اهتمامات شباب المسرح العربي الطامحين لاحتراف المسرح في المستقبل القريب.
لكن هذه الصورة لا يمكن استنتاجها
بمجرد المرور الأفقي ذلك أنها لا يمكن
تحديد معطيات تشكلها دون البحث في مساحات الاختلاف مثل الفروق الفاصلة بين الفرق
في اختيار للنصوص و طبيعة المعالجات التي تتم على تلك النصوص ، ثم عملية تشكيل
العرض المسرحي في النهاية .. وعبر تلك الاختلافات تتضح سمات ذلك التصور لواقع
الدراسة المسرحية في الأقطار المختلفة.
ويمكن للعروض المصرية أن تكون
منطلقاً جيداً للتحليل و المقارنة ، فنحن نجد أن كل من عرض أكاديمية الفنون
المصرية وعرض كلية الآداب يحملان سمات تشابه برغم الاختلافات التي تفصل بينهم ،
ففي البداية هناك عودة لنص مسرحي ينتمي للقرن العشرين ويمثل في جانب منه رؤية
تشاؤمية للعالم ولإمكانية التغيير برغم المحاولات المستميتة لمواجهة ذلك اليأس
الذي يتمدد و ينتشر ببطء ليبتلع عالم النص بأكمله كما يحدث في مسافر ليل و في
الدرس .
وتتضح ملامح تلك الملاحظة مع
التدخلات التي قام بها فريق العمل على النصوص .. فهناك مواجهة أكثر قوة و عنفاً
لهيمنة اليأس و تمدده عبر الضحك و السخرية كما هو الحال في عرض مسافر ليل الذي
استغل معده (خالد رسلان) ملاحظة إرشادية لمؤلف النص كمدخل لتأويل النص وإعادة
إنتاجه ليتمكن من التعبير عن عالم أكثر صخباً و أقل ثباتاً لم تعد فيه علاقات
السلطة حديه و ساطعة .. فصارت السخرية هي سلاح التحطيم و التفتيت لنموذج السلطة
الواضحة المعالم و المهيمنة التي يرسخ لها النص ليحل محلها سلطة متحولة و مجزئة
سواء أكانت سلطة عامل التذاكر أم سلطة الرواة أو الفريق المسرح الذي يقدم المسرحية
أو سلطة المخرج ... الخ. إن النص الجديد تتعدد فيه مستويات السلطة و تتنوع لتصبح
أكثر عمقاً و أقل قابلية للتحديد و العزل كما كان الحال في نص صلاح عبد الصبور.
وبالتأكيد فإن ما قام به مخرج ومعد
عرض الدرس (رامي نادر) لم يبتعد كثيراً وإن كان بشكل أقل عمقاً من نص مسافر ليل ..
فهنا تدخل العامية المصرية لتحقق إحالة مختلفة بنص يوجين يونسكو ويتحول درس اللغة
الفرنسية لدرس في اللغة العربية .. وتتصادم العامية المصرية بالفصحى و ينحدر نص
يونسكو ليفقد رؤيته ويتحول لخلفية لعالم هش و فارغ يدور في فضائه أطياف لواقع
وأطياف لسلطة غامضة و غير واضحة .
بالمجمل ينتهي العرض بجريمة قتل
تماماً كما هو الحال في عرض مسافر ليل .. وبالموت تكتمل الدائرة وتغلق ليعاد إنتاجها من جديد ..
إن العروض المصرية يمكن أن نلمس
منها ميلاً للبني الدرامية الدائرية و ميلاً لتفتيت السلطة و كشف مستويات حضورها
والتأكيد على صعوبة الإمساك بها و تقيدها و تحديد مجال عملها .. فهي تتمدد عبر
اصوات مختلفة وعبر اللغة و عبر السخرية ليتحول النضال ضدها لفعل عبثي ...
ومن منطلق تقني شديد الاختلاف ينطلق
عرض همسات المغربي .. فهو عرض ينسحب من عالم الكلمة لعالم الصورة .. وتنمو فيه
قيمة شاعرية الصورة وقدرتها على إنتاج مساحات تأويلية أكثر أتساعاً و أقل قابلية
لتحديد معني أو خطاب محدد .. فالجسد يتحرك بين الإيماءة و الحركة اليومية و الرقص
و التمثيل الصامت .. الخ ليخلف في النهاية خليط معقد يصعب تفسيره دون قيام المتلقي
بجهد تأويلي يجمع فيه ذلك الخليط يكون رؤيته الخاصة به.
ونتيجة لذلك يظل العرض متأرجحاً بين
التأويل الاجتماعي الذي ينطلق من رؤية العرض كتعبير عن مشاكل الواقع المغربي وهو
التأويل الذي يكتسب قوته من أغنية الراب التي تسبق العرض و تعقبه من ناحية و مشاهد
اللعب و الهجرة .. الخ.
وبالمقابل هناك التأويل النفسي الذي
ينطلق من رؤية ترى أننا أمام ذات منقسمة على نفسها تحاول البحث بذاكرتها أو مصارعة
ذاتها .. وهو التأويل الذي ينطلق من ملابس المؤدين بشكل أساسي و طبيعة العلاقة
التي تجمعهم طيلة الوقت.
أننا أما عرض ينسحب و يعتصم بشاعرية
والتقنية ليصبح الأثر الجمالي هو غايته الأهم و الأكبر .
وتبقي عروض المعهد العالي للفنون
المسرحية بدولة الكويت التي يمكن أن نلمح فيها اقترابا من التجارب المصرية لكنها
أقل اهتماما بالخروج للعالم .. فهي تقف في مساحة الأفكار المجردة فيصبح عطيل
شكسبير عرض المنديل الذي يدور في دوائر مغلقة من الشك والخيانة و الحب والمؤامرات
.. ويختفي ذلك الصراع العميق بين الأسود والأبيض بين الشرق والغرب بين ثقافة وأخرى
.. الخ ..
ينحو المخرج بالعرض لمساحة الشرف
والمنديل والشك و القتل .. لكنه لا يستكمل تلك الدائرة حتى يعود فيحطمها عبر
العثور على المنديل !
وعلى ذات المنوال ينطلق عرض الرجل
الأصم الذي تتحول فيه شخصية الأم في النص الأصلي لتصير شخصية ذكورية .. قوية
ومهيمنة .
إن السمات التي تجمع عروض الكويت هي
محاولة إعادة صياغة النصوص لتعكس رؤية أكثر تجريداً للعالم و أقل انخراطا فيه ..
ربما يمكن استثناء عرض جثث في الذاكرة لكون المخرج هو ذاته المؤلف .. وهو الأمر
الذي يجعله حالة مختلفة ضمن إطار العروض ككل .
لنعد لذلك التصور العام لواقع دارسي
المسرح ...
إن عروض المهرجان يمكن أن تؤشر في
مجموعها على تراجع واضح لهيمنة النص الأصلي والتعامل معه كمدخل للوصول إلي غايات
مختلفة و مناقضة في كثير من الأحيان لغايته الأصلية .. أننا أمام سيادة لواقع يهدم
سلطة النص .. ربما ليرسخ سلطات جديدة كما يظهر في بعض الأحيان أو ليدمرها .. أو
حتى ليتجنبها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق